SlideShare a Scribd company logo
Mohammed ppuh
‫عني‬
                                                       ‫القائمة‬


                                                                  ‫مولده‬
                                             ‫نشأته‬
                                                                  ‫ونسبه‬

                                   ‫الدعوة‬             ‫الدعوة‬
                                  ‫جهرا في‬             ‫سرا في‬                ‫بعثته‬
                                    ‫مكة‬                ‫مكة‬

                      ‫بيعة العقبة‬        ‫بيعة العقبة‬             ‫اإلسراء‬              ‫الدعوة‬
                        ‫الثانية‬            ‫األولى‬                ‫والمعراج‬           ‫خارج مكة‬

                 ‫غزوة‬
                                                                          ‫المرحلة‬             ‫الهجرة‬
                ‫الخندق‬            ‫غزوة أحد‬           ‫غزوة بدر‬
               ‫(األحزاب)‬                                                   ‫المدنية‬          ‫إلى المدينة‬

                           ‫غزوة‬                                   ‫غزوة‬               ‫غزوة‬              ‫صلح‬
       ‫وفاته‬                                ‫فتح مكة‬
                           ‫تبوك‬                                   ‫مؤتة‬               ‫خيبر‬             ‫الحديبية‬


      ‫مصادر‬                         ‫قصص األنبياء‬         ‫سيرة ابن هشام‬       ‫تحدي.كوم‬           ‫الرحيق المختوم‬   ‫ويكيبديا‬
‫ولد صلى اهلل عليه وسلم يف مكة يف الثاين عشر من ربيع األول من عام الفيل‬           ‫‪‬‬
 ‫(075 او 175 م). نسبه من جهة أبيه : حممد بن عبد اهلل (وهو الذبيح) بن عبد‬
     ‫املطلب ـ وامسه شْيبَة ـ بن هاشم ـ وامسه عمرو ـ بن عبد مناف ـ وامسه املغرية ـ بن‬
                                                                    ‫َ‬
     ‫قُصى ـ وامسه زيد ـ بن كِالب بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فِهر ـ وهو‬
              ‫ْ‬                                   ‫ُ َّ‬                         ‫َّ‬
  ‫امللقب بقريش وإليه تنتسب القبيلة ـ بن مالك بن النَّضر ـ وامسه قيس ـ بن كِنَانة بن‬
                                ‫ْ‬
 ‫خزْْيَة بن مدكة ـ وامسه عامـر ـ بن إلياس بن مضر بن نِزار بن معد بن عدنان ( هذا‬
                    ‫ََّ‬       ‫َ‬        ‫َُ‬                              ‫ِ‬
                                                                       ‫ُ ْر‬      ‫َُ‬
   ‫اجلزء املتفق عليه من نسبه ) وممما ال شك فيه ان عدنان من صريح ولد إمساعيل‬
                                                                        ‫عليه السالم.‬
‫نسبه من جهة أمه: آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن حكيم ابن مرة الذي‬                 ‫‪‬‬
                           ‫هو اجلد اخلامس للنيب صلى اهلل عليه وسلم من جهة أبيه.‬
‫تويف والده قبل مولده صلى اهلل عليه وسلم قبل والدته بشهرين ( اجلمهور) .‬      ‫‪‬‬

                                                ‫توفيت أمه و هو يف السادسة من عمره .‬      ‫‪‬‬

                                       ‫كفله جده عبداملطلب حىت وفاته وعمره 8 سنوات.‬       ‫‪‬‬

                                                                ‫كفله عمه أبو طالب .‬      ‫‪‬‬

                                              ‫أرضعته حليمة السعدية يف ديار بين سعد .‬     ‫‪‬‬

                                                                 ‫رعى الغنم ألهل مكة.‬     ‫‪‬‬

‫عندما بلغ الثانية عشر من عمره سافر مع عمه للشام للتجارة و هناك قابل الراهب حبريى‬         ‫‪‬‬
‫، كان عاملا باإلجنيل ، فنصح عمه أن جيعل حممد صلى اهلل عليه وسلم بعيدا عن اليهود،‬ ‫و‬
 ‫قال حبريى : ((ارجع بابن أخيك إىل بلدك واحذر عليه اليهود فواهلل إن رأوه أو عرفوا منه‬
  ‫الذي أعرف ليبغنه عنتًا، فإنه كائن البن أخيك شأن عظيم جنده يف كتبنا وما ورثنا من‬
                                                                              ‫آبائنا))‬
‫لقب صلى اهلل عليه وسلم بالصادق األمني يف مكة.‬     ‫‪‬‬

                         ‫عرف عنه صلى اهلل عليه وسلم أنه مل يسجد لصنم قط.‬      ‫‪‬‬

                   ‫تزوج خدجية بنت خويلد وهو يف اخلامسة والعشرين من العمر.‬     ‫‪‬‬

  ‫أجنب صلى اهلل عليه وسلم من خدجية القاسم و عبداهلل و فاطمة و أم كلثوم و‬      ‫‪‬‬
                                                               ‫زينب و رقية.‬
‫كان ج لإلعتكاف والتفكر يف خلق الدنيا إىل غار حراء ، وهو غار موجود يف‬‫خير‬       ‫‪‬‬
                                                          ‫إحدى جبال مكة.‬
‫بعث صلى اهلل عليه وسلم وهو يف األربعني من عمره، اذ نزل عليه الوحي بوساطة‬      ‫‪‬‬
           ‫جربيل عليه السالم وهو معتكف يف غر حراء يف شهر رمضان املبارك.‬
‫بعث صلى اهلل عليه وسلم وهو يف األربعني من عمره وهو معتكف يف غار حراء.‬         ‫‪‬‬

‫كان أول ما نزل عليه من القرأن عن طريق جربيل عليه السالم : (إقرأ) و اوائل سورة‬‫و‬    ‫‪‬‬
                                                                         ‫العلق.‬
‫رجع صلى اهلل عليه وسلم بعدها خائفا إىل زوجته خدجية وأبلغها مبا حصل، فذهبت‬         ‫‪‬‬
      ‫إىل ورقة ابن نوفل كان ابن عمها كان تنصر يف اجلاهلية كان عاملا يف اإلجنيل،‬
                          ‫و‬                    ‫و‬            ‫و‬
   ‫فلما أتى سيدنا حممد صلى اهلل عليه و سلم وقص عليه ما جرى، بشره بأن ما رآه‬
‫هو نفس امللك الذي أتى سيدنا عيسى عليه السالم من قبل، و وعده إن ادرك بعثته‬
      ‫ليكونن من الناصرين لسيدنا حممد صلى اهلل عليه وسلم، لكنه ما لبث ان تويف.‬
‫كانت الدعوة اىل االسالم يف مكة قد بدأت سرا، كان يعقد اجتماع املسلمني يف‬
                            ‫و‬                                                  ‫‪‬‬
                                                  ‫دار األرقم ابن ايب األرقم.‬
                              ‫كان أول من أمن من النساء خدجية بنت خويلد.‬        ‫‪‬‬

    ‫كان أول من أمن من الصبيان علي بن أيب طالب كرم اهلل وجهه و رضي عنه.‬         ‫‪‬‬

                  ‫كان أول من أمن من الرجال أبو بكر الصديق رضي اهلل عنه.‬        ‫‪‬‬

                                    ‫استمرت الدعوة السرية يف مكة 3 سنوات.‬       ‫‪‬‬
‫ِ ِ‬
         ‫بدءت الدعوة جهرا مع نزول اآلية {وأَنذر عشريتَك األَقْـربِني} [الشعراء:412]‬
                          ‫َ ْ َ َ َ ْ َ َ‬                                               ‫‪‬‬

‫فصعد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إىل جبل الصفا ونادى يف أهل مكة ، فجاؤوه ومن‬           ‫‪‬‬
    ‫مل يستطع بعث برسول لريى ما اخلطب ، فقال هلم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :‬
     ‫((أرأيتكم لو أخربتكم أن خيال بالوادى بسفح هذا اجلبل تريد أن تغري عليكم أكنتم‬
                                            ‫َْ‬            ‫ً‬
                                                                          ‫مص ِّقِى؟).‬
                                                                             ‫ُ َ د َّ‬
                           ‫قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذبًا، ما جربنا عليك إال صدقًا.‬
   ‫قال: (إىن نذير لكم بني يدى عذاب شديد، إمنا مثلى ومثلكم كمثل رجل رأي العدو‬
    ‫َ ُّ‬
 ‫فانطلق يَـ ْربَأ أهله)( أي يتطلع وينظر هلم من مكان مرتفع لئال يدمههم العدو) (خشى أن‬
                                                      ‫يسبقوه فجعل ينادى: يا صباحاه)‬
                                            ‫مث دعاهم إىل احلق، وأنذرهم من عذاب اهلل.‬
  ‫و مع بدء الدعوة اجلهرية، بدأت مراحل التحريض و اإلكراه والتعذيب حبق كل من اتبع‬         ‫‪‬‬
                                                                          ‫هذا الدين.‬
‫وخالل هذه األيام أهم قريشا أمر آخر،وذلك أن اجلهر بالدعوة مل ْيض عليه إال أيام أو أشهر‬
                                                                           ‫ً‬                                ‫‪‬‬
‫معدودة حىت قرب موسم احلج، وعرفت قريش أن وفود العرب ستقدم عليهم، فرأت أنه البد من كلمة‬
       ‫يقولوهنا للعرب، يف شأن حممد صلى اهلل عليه وسلم حىت ال يكون لدعوته أثر يف نفوس العرب،‬
    ‫فاجتمعوا إىل الوليد بن املغرية يتداولون يف تلك الكلمة، فقال هلم الوليد: أمجعوا فيه رأيـًا واحدا،وال‬
         ‫ً‬
    ‫ختتلفوا فيكذب بعضكم بعضا، ويرد قولكم بعضه بعضا، قالوا: فأنت فقل، وأقم لنا رأيًا نقول به.‬
                                                  ‫ً‬                      ‫ً‬
 ‫قال: بل أنتم فقولوا أمسع. قالوا: نقول: كاهن. قال: ال واهلل ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو‬
‫بزمزمة الكاهن وال سجعه. قالوا: فنقول: جمنون، قال: ما هو مبجنون، لقد رأينا اجلنون وعرفناه، ما هو‬    ‫َ ْ ََ‬
   ‫خبَْنقه وال ختَاجلِه وال وسوسته. قالوا: فنقول: شاعر. قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه‬
                                                                                         ‫َ ُ‬        ‫ِ‬
    ‫َ ََ‬
                                                                                    ‫ََ َ ِ َ َ ْ‬
 ‫وهزجه وقَريضه ومقبُوضه ومْبسوطه، فما هو بالشعر، قالوا: فنقول: ساحر. قال: ما هو بساحر، لقد‬
                                                                        ‫َ ُ‬
                                                       ‫ْ ِِ‬
             ‫رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنَـفثِهم وال عقدهم. قالوا: فما نقول؟ قال: واهلل إن لقوله‬
                                                                 ‫ِْ‬
‫حلالوة، [وإن عليه لطالوة] وإن أصله لعذق، وإن فَـْرعه جلَنَاة، وما أنتم بقائلني من هذا شيئًا إال عرف‬
                                                    ‫َ‬        ‫ََ‬
‫أنه باطل، وإن أقرب القول فيه ألن تقولوا: ساحر. جاء بقول هو سحر، يفرق به بني املرء وأبيه، وبني‬
                                  ‫املرء وأخيه، وبني املرء وزوجته، وبني املرء وعشريته، فتفرقوا عنه بذلك.‬
‫‪ ‬ومن األساليب اليت اختذهتا قريش جملاهبة الدعوة:‬
                                                     ‫1- السخرية والتحقري، واالستهزاء والتكذيب والتضحيك‬
                                                                     ‫2-إثارة الشبهات وتكثيف الدعايات ال‬
                                        ‫3-احليلولة بني الناس وبني مساعهم القرآن، ومعارضته بأساطري األولني‬
‫‪ ‬تعرض رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم لألذى من عمرو بن هشام ( أبو جهل)، كان هذا سببا يف دخول‬
                     ‫و‬
                                 ‫محزة بن عبد املطلب يف اإلسالم وهو عم الرسول صلى اهلل عليه وسلم.‬
‫‪ ‬وخالل هذا اجلو امللبد بغيوم الظلم والعدوان أضاء برق آخر أشد بريقا وإضاءة من األول، أال وهو إسالم‬
                                   ‫ً‬
‫عمر بن اخلطاب، أسلم يف ذى احلجـة سـنة سـت مـن النبـوة. بعد ثالثة أيام من إسالم محزة رضي اهلل عنه‬
 ‫كان النيب صلى اهلل عليه وسلم قد دعا اهلل تعاىل إلسالمه. فقد ج الرتمذى عن ابن عمر، وصححه،‬
                                    ‫أخر‬                                                              ‫و‬
     ‫و ج الطرباين عن ابن مسعود وأنس أن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال: (اهلل م أعز اإلسالم بأحب‬     ‫أخر‬
     ‫الرجلني إليك: بعمر بن اخلطاب أو بأيب جهل بن هشام) فكان أحبهما إىل اهلل عمر رضي اهلل عنه.‬
‫بعد إسالم محزة و عمر، ج املسلمون يف صفني من دار األرقم بن أيب األرقم إىل‬
                                                      ‫خر‬                          ‫‪‬‬
                 ‫الكعبة، فكان إلسالم هذان الرجلني بالغ األثر يف نفوس املسلمني.‬
‫كان ابن مسعود رضي اهلل عنه يقول: ما كنا نقدر أن نصلى عند الكعبة حىت أسلم‬      ‫و‬   ‫‪‬‬
                                                                           ‫عمر.‬
  ‫تعرض رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم و املسلمون و آل هاشم إىل مقاطعة قريش‬          ‫‪‬‬
      ‫هلم، فاتفق قادة قريش على حماصرهتم يف شعب ايب طالب يف مكة على ان ال‬
 ‫بتاجرو معهم وال يبيعوهم وال يشرتو منهم وال يزوجوهم وال يتزوجو منهم ، كتبوها‬
       ‫و‬
                                                    ‫يف وثيقة علقت داخل الكعبة.‬
  ‫استمرت املقاطعة 3 سنوات، تويف خالهلا سيدتنا خدجية بنت خويلد و أبو طالب‬          ‫‪‬‬
             ‫فحزن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كثريا ومسي هذا العام بعام احلزن.‬
‫يف شوال سنة عشر من النبوة [يف أواخر مايو أو أوائل يونيو سنة 916 م] ج النيب صلى اهلل عليه وسلم إىل‬
                                         ‫خر‬                                                                         ‫‪‬‬
‫الطائف، وهي تبعد عن مكة حنو ستني ميال، سارها ماشيًا على قدميه جيئة وذهوبًا، ومعه مواله زيد بن حارثة، كان‬
    ‫و‬                                                                       ‫ً‬
                                          ‫كلما مر على قبيلة يف الطريق دعاهم إىل اإلسالم، فلم جتب إليه واحدة منها.‬
  ‫ورجع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف طريق مكة بعد خروجه من احلائط كئيبًا حمزونًا كسري القلب، فلما بلغ قرن‬
                              ‫املنازل بعث اهلل إليه جربيل ومعه ملك اجلبال، يستأمره أن يطبق األخشبني على أهل مكة.‬
‫وقد روى البخاري تفصيل القصة ـ بسنده ـ عن عروة بن الزبري، أن عائشة رضي اهلل عنها حدثته أهنا قالت للنىب صلى‬
                               ‫ِ‬
   ‫اهلل عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ قال: (لقيت من قومك ما لقيت، كان أشد ما‬
               ‫و‬
‫لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يالِيل بن عبد كالَل، فلم جيبين إىل ما أردت، فانطلقت ـ وأنا‬
                                                 ‫ُ‬
                                              ‫َِ‬                          ‫َِ‬
 ‫مهموم ـ على وجهي، فلم أستفق إال وأنا بق ْرن الثعالب ـ وهو املسمى بق ْرن املنازل ـ فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد‬
‫أظلتين، فنظرت فإذا فيها جربيل، فناداين، فقال: إن اهلل قد مسع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث اهلل إليك‬
‫ملك اجلبال لتأمره مبا شئت فيهم. فناداين ملك اجلبال، فسلم علي مث قال: يا حممد، ذلك، فما شئت، إن شئت أن‬
                  ‫أطبق عليهم األخشبني ـ أي لفعلت، واألخشبان: مها جبال مكة: ّأبو قُـبـيس والذي يقابله، وهو قُـعي ِ‬
  ‫َْقعان ـ قال النيب‬
                ‫َ‬                              ‫َْ‬
   ‫صلى اهلل عليه وسلم: بل أرجو أن ج اهلل عز وجل من أصالهبم من يعبد اهلل عز وجل وحده ال يشرك به شيئا).‬
                                                                                ‫خير‬
‫يف ذى القعدة سنة عشر من النبوة ـ يف أواخر يونيو أو أوائل يوليو سنة 916 م ـ عاد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬          ‫‪‬‬
‫إىل مكة؛ ليستأنف عرض اإلسالم على القبائل واألفراد، والقرتاب املوسم كان الناس يأتون إىل مكة رجاال، وعلى كل‬
    ‫ضامر يأتني من كل فج عميق ألداء فريضة احلج، وليشهدوا منافع هلم، ويذكروا اسم اهلل يف أيام معلومات، فانتهز‬
      ‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم هذه الفرصة، فأتاهم قبيلة قبيلة يعرض عليهم اإلسالم ويدعوهم إليه ، كما كان‬
  ‫يدعوهم منذ السنة الرابعة من النبوة ، وقد بدأ يطلب منهم من هذه السنة ـ العاشرة ـ أن يؤووه وينصروه وْينعوه حىت‬
                                                                                              ‫يبلغ ما بعثه اهلل به.‬
                                                                                ‫القبائل اليت عرض عليها اإلسالم‬
     ‫قال الزهرى: كان ممن يسمى لنا من القبائل الذين أتاهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم، ودعاهم وعرض نفسه‬
                                                                                                   ‫و‬
                      ‫َ‬                                          ‫َ ََ‬       ‫َْ ََ ُ ِ‬
 ‫عليهم: بنو عامر بن صعصعة، وحمَارب بن خصفة، وفزارة، وغسان، ومرة، وحنيفة، وسليم، وعْبس، وبنو نصر، وبنو‬
                           ‫البَكاء، كندة، كلب، واحلارث بن كعب، وعذرة، واحلضارمة، فلم يستجب منهم أحد.‬
                                                                  ‫َُْ‬                           ‫و‬        ‫َّ و‬
 ‫وهذه القبائل اليت مساها الزهرى مل يكن عرض اإلسالم عليها يف سنة واحدة وال يف موسم واحد، بل إمنا كان ما بني‬
‫السنة الرابعة من النبوة إىل آخر موسم قبل اهلجرة. وال ْيكن تسمية سنة معينة لعرض اإلسالم على قبيلة معينة، ولكن‬
                                                                                    ‫األكثر كان يف السنة العاشرة.‬
‫ويف موسم احلج من سنة 11 من النبوة ـ يوليو سنة 026م ـ وجدت الدعوة اإلسالمية بذورا صاحلة، سرعان ما حتولت إىل شجرات‬
                                             ‫ً‬                                                                                           ‫‪‬‬
                         ‫باسقات، اتقى املسلمون يف ظالهلا الوارفة لفحات الظلم والعدوان حىت تغري جمرى األحداث وحتول خط التاريخ.‬
‫كان من حكمته صلى اهلل عليه وسلم إزاء ما كان يلقى من أهل مكة من التكذيب والصد عن سبيل اهلل أنه كان ج إىل القبائل يف ظالم‬
                     ‫خير‬                                                                                                             ‫و‬
                                                                           ‫الليل، حىت ال حيول بينه وبينهم أحد من أهل مكة كني.‬
                                                                               ‫املشر‬
 ‫ج ليلة ومعه أبو بكر وعلى، فمر على منازل ذُهل وشيبان بن ثعلبة ، كلمهم يف اإلسالم. وقد دارت بني أيب بكر وبني رجل من ذهل‬
                                                            ‫و‬                       ‫ْ‬                                              ‫فخر‬
                                               ‫أسئلة وردود طريفة، وأجاب بنو شيبان بأرجى األجوبة، غري أهنم توقفوا يف قبول اإلسالم.‬
    ‫مث مر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بعقبة مىن، فسمع أصوات رجال يتكلمون فعمدهم حىت حلقهم، كانوا ستة نفر من شباب يثرب‬
                                  ‫و‬
                                                                                                                ‫كلهم من ج، وهم:‬
                                                                                                                         ‫اخلزر‬
                                                                                                    ‫1 ـ أسعد بن زرارة [من بين النجار].‬
                                                                                                                        ‫َُ‬
                                                                            ‫2 ـ عوف بن احلارث بن رفاعة ابن عفراء [من بين النجار].‬
                                                                                                  ‫َْ‬
                                                                                        ‫3 ـ رافع بن مالك بن العجالن [من بين زريْق].‬
                                                                                             ‫َُ‬               ‫َْ‬
                                                                                         ‫4 ـ قُطْبَة بن عامر بن حديدة [من بين سلمة].‬
                                                                                  ‫5 ـ عقبَة بن عامر بن نايب [من بين حرام بن كعب ].‬
                                                                                                 ‫ََ‬                             ‫ُْ‬
                                                                                                              ‫ِ‬
                                                                               ‫6 ـ جابر بن عبد اهلل بن رئاب [من بين عبيد بن غنْم ].‬
                                                                                     ‫َ‬
     ‫كان من سعادة أهل يثرب أهنم كانوا يسمعون من حلفائهم من يهود املدينة، إذا كان بينهم شيء، أن نبيًا من األنبياء مبعوث يف هذا‬        ‫و‬
                                                                                    ‫ج، فنتبعه، ونقتلكم معه قتل عاد وإرم.‬   ‫الزمان سيخر‬
‫فلما حلقهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال هلم: (من أنتم؟) قالوا: نفر من ج، قال: (من مواىل‬
                      ‫اخلزر‬                                                                              ‫‪‬‬
      ‫اليهود؟) أي حلفائهم، قالوا: نعم. قال: (أفال جتلسون أكلمكم؟) قالوا: بلى، فجلسوا معه، ح هلم‬
           ‫فشر‬
  ‫حقيقة اإلسالم ودعوته، ودعاهم إىل اهلل عز وجل، وتال عليهم القرآن. فقال بعضهم لبعض: تعلمون واهلل‬
            ‫يا قوم، إنه للنىب الذي توعدكم به يهود، فال تسبقنكم إليه، فأسرعوا إىل إجابة دعوته، وأسلموا.‬
    ‫كانوا من عقالء يثرب، أهنكتهم احلرب األهلية اليت مضت قريبًا، واليت ال يزال هليبها مستعرا، فأملوا أن‬
                ‫ً‬                                                                                    ‫و‬
 ‫تكون دعوته سببًا لوضع احلرب، فقالوا: إنا قد كنا قومنا وال قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى‬
                                                         ‫تر‬
‫أن جيمعهم اهلل بك، فسنقدم عليهم، فندعوهم إىل أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين ،‬
                                                                ‫فإن جيمعهم اهلل عليك فال رجل أعز منك.‬
 ‫وملا رجع هؤالء إىل املدينة محلوا إليها رسالة اإلسالم، حىت مل تبق دار من دور األنصار إال وفيه ذكر رسول‬
                                                                            ‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم.‬
 ‫ويف شوال من هذه السنة ـ سنة 11 من النبوة ـ تزوج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عائشة الصديقة رضي‬
 ‫اهلل عنها وهي بنت ست سنني وبين هبا باملدينة يف شوال يف السنة األوىل من اهلجرة وهي بنت تسع سنني.‬
‫قال ابن القيم: أسرى برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم جبسده على الصحيح من املسجد احلرام إىل بيت املقدس، راكبًا على البُـراق، صحبة جربيل عليهما‬
                                 ‫َ‬                                                                                                                                ‫‪‬‬
                                                                              ‫الصالة والسالم، فنزل هناك، وصلى باألنبياء إماما، وربط الرباق حبلقة باب املسجد.‬
                                                                                                              ‫ً‬
‫مث ج به تلك الليلة من بيت املقدس إىل السماء الدنيا، فاستفتح له جربيل ففتح له، فرأي هنالك آدم أبا البشر، فسلم عليه، فرحب به ورد عليه السالم، وأقر‬         ‫عر‬
                                                                                           ‫بنبوته، وأراه اهلل أرواح السعداء عن ْيينه، وأرواح األشقياء عن يساره.‬
                  ‫مث ج به إىل السماء الثانية، فاستفتح له، فرأي فيها حيىي بن كريا وعيسى ابن مرمي، فلقيهما وسلم عليهما، فردا عليه ورحبا به، وأقرا بنبوته.‬
                           ‫ّ‬                                                                    ‫ز‬                                                        ‫عر‬
                                                                     ‫مث ج به إىل السماء الثالثة، فرأي فيها يوسف، فسلم عليه فرد عليه ورحب به، وأقر بنبوته.‬‫عر‬
                                                                   ‫مث ج به إىل السماء الرابعة، فرأي فيها إدريس، فسلم عليه، فرد عليه، ورحب به، وأقر بنبوته.‬
                                                                                                                                                         ‫عر‬
                                                       ‫مث ج به إىل السماء اخلامسة، فرأي فيها هارون بن عمران، فسلم عليه، فرد عليه ورحب به، وأقر بنبوته.‬   ‫عر‬
                                                      ‫مث ج به إىل السماء السادسة، فلقى فيها موسى بن عمران، فسلم عليه، فرد عليه ورحب به، وأقر بنبوته.‬     ‫عر‬
                     ‫فلما جاوزه بكى موسى، فقيل له: ما يبكيك ؟ فقال: أبكى؛ ألن غالما بعث من بعدى يدخل اجلنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمىت.‬
                                                                                        ‫ً‬
                                                   ‫مث ج به إىل السماء السابعة، فلقى فيها إبراهيم عليه السالم، فسلم عليه، فرد عليه، ورحب به، وأقر بنبوته.‬ ‫عر‬
      ‫مث رفع إىل سدرة املنتهى، فإذا نَـْبـقها مثل قِالَل هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، مث غشيها فراش من ذهب، ونور وألوان، فتغريت، فما أحد من خلق اهلل‬
                                                                                                             ‫ََ‬                ‫ُ‬
‫يستطيع أن يصفها من حسنها. مث رفع له البيت املعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك مث ال يعودون. مث أدخل اجلنة، فإذا فيها حبائل اللؤلؤ، وإذا‬
                                                                                                        ‫َِ‬
                                                                                            ‫تراهبا املسك. ج به حىت ظهر ملستوى يسمع فيه صريف األقالم.‬
                                                                                                                                           ‫وعر‬
   ‫مث ج به إىل اجلبّار جل جالله، فدنا منه حىت كان قاب قوسني أو أدىن، فأوحى إىل عبده ما أوحى، وفرض عليه مخسني صالة، فرجع حىت مر على موسى‬
                ‫ّ‬                                                                                                                                        ‫عر‬
  ‫فقال له: مب أمرك ربك؟ قال: [خبمسني صالة]. قال: إن أمتك ال تطيق ذلك، ارجع إىل ربك فاسأله التخفيف ألمتك، فالتفت إىل جربيل، كأنه يستشريه يف‬
‫ذلك، فأشار: أن نعم إن شئت، فعال به جربيل حىت أتى به اجلبار تبارك وتعاىل، وهو يف مكانه ـ هذا لفظ البخاري يف بعض الطرق ـ فوضع عنه عشرا، مث أنزل‬
           ‫ً‬
 ‫حىت مر مبوسى، فأخربه، فقال: ارجع إىل ربك فاسأله التخفيف، فلم يزل يرتدد بني موسى وبني اهلل عز وجل، حىت جعلها مخسا، فأمره موسى بالرجوع وسؤال‬
                                 ‫ً‬
                                 ‫التخفيف، فقال: [قد استحييت من ريب، ولكين أرضى وأسلم]، فلما بعد نادى مناد: قد أمضيت فريضىت وخففت عن عبادى‬
‫كان من جراء ذلك أن جاء يف املوسم التايل ـ موسم احلج سنة 21 من النبوة، يوليو سنة 126م ـ اثنا عشر رجال، فيهم مخسة من الستة الذين كانوا قد‬
                                           ‫ً‬                                                                                                                ‫و‬   ‫‪‬‬
                                                  ‫ِ‬
                    ‫التقوا برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف العام السابق ـ والسادس الذي مل حيضر هو جابر بن عبد اهلل بن رئاب ـ وسبعة سواهم، وهم:‬
                                                                                             ‫1 ـ معاذ بن احلارث، ابن عفراء من بين النجار [من ج]‬
                                                                                                 ‫اخلزر‬
                                                                                                     ‫2 ـ ذَكوان بن عبد القيس من بين زريْق. [من ج]‬
                                                                                                       ‫اخلزر‬          ‫َُ‬                             ‫َْ‬
                                                                                                          ‫3 ـ عبادة بن الصامت من بين غْنم [من ج]‬
                                                                                                             ‫اخلزر‬       ‫َ‬
                                                                                                         ‫4 ـ يزيد بن ثعلبة من حلفاء بين غنم [من ج]‬
                                                                                                           ‫اخلزر‬
                                                                                                  ‫5 ـ العباس بن عبَادة بن نَضلَة من بين سامل [من ج]‬
                                                                                                    ‫اخلزر‬                    ‫ْ‬           ‫ُ‬
                                                                                             ‫6 ـ أبو اهلَْيثَم بن التَّـيَّـهان من بين عبد األشهل [من األوس].‬
                                                                                                                                   ‫َ‬
                                                                                               ‫7 ـ عومي بن ساعدة من بين عمرو بن عوف [من األوس].‬
                                                                                                                   ‫َْ‬                                ‫َُْ‬
                                                                                                             ‫األخريان من األوس، والبقية كلهم من ج.‬
                                                                                                               ‫اخلزر‬
                                  ‫التقى هؤالء برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عند العقبة مبىن فبايعوه بيعة النساء، أي وفق بيعتهن اليت نزلت بعد احلديبية.‬
 ‫روى البخاري عن عبادة بن الصامت أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال: [تعالوا بايعوين على أال كوا باهلل شيئًا، وال تسرقوا، وال تزنوا، وال تقتلوا‬
                                                    ‫تشر‬
‫أوالدكم، وال تأتوا ببهتان تفرتونه بني أيديكم وأرجلكم، وال تعصوين يف معروف، فمن ويف منكم فأجره على اهلل ، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به‬
‫يف الدنيا، فهو له كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئًا فسرته اهلل ، فأمـره إىل اهلل ؛ إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عـنه]. قــال: فبايعته ـ ويف نسخة: فبايعناه ـ‬
                                                                                                                                              ‫على ذلك.‬
                                                                                                                                 ‫سفري اإلسالم يف املدينة‬
‫وبعد أن متت البيعة وانتهى املوسم بعث النيب صلى اهلل عليه وسلم مع هؤالء املبايعني أول سفري يف يثرب؛ ليعلم املسلمني فيها شرائع اإلسالم، ويفقههم‬
     ‫يف الدين، وليقوم بنشر اإلسالم بني الذين مل يزالوا على الشرك، واختار هلذه السفارة شابًا من شباب اإلسالم من السابقني األولني، وهو مصعب بن‬
            ‫ُ َْ‬
                                                                                                                            ‫عمري العبدرى رضي اهلل عنه.‬   ‫َُْ‬
‫بيعة العقبة الثانية‬   ‫‪‬‬
          ‫يف موسم احلج يف السنة الثالثة عشرة من النبوة ـ يونيو سنة 226م ـ حضر ألداء مناسك احلج بضع وسبعون نفسا من‬
               ‫ً‬
   ‫املسلمني من أهل يثرب،جاءوا ضمن حجاج قومهم من كني، وقد تساءل هؤالء املسلمون فيما بينهم ـ وهم مل يزالوا يف‬
                                                                 ‫املشر‬
                  ‫يثرب أو كانوا يف الطريق: حىت مىت نرتك رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يطوف ويطرد يف جبال مكة وخياف؟‬
      ‫فلما قدموا مكة جرت بينهم وبني النيب صلى اهلل عليه وسلم اتصاالت سرية أدت إىل اتفاق الفريقني على أن جيتمعوا يف‬
‫أوسط أيام التشريق يف الشعب الذي عند العقبة حيث اجلمرة األوىل من مىن، وأن يتم االجتماع يف سرية تامة يف ظالم الليل.‬
‫ولنرتك أحد قادة األنصار يصف لنا هذا االجتماع التارخيي الذي حول جمرى األيام يف صراع الوثنية واإلسالم. يقول كعب بن‬
                                                                                            ‫مالك األنصاري رضي اهلل عنه:‬
  ‫خرجنا إىل احلج، وواعدنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بالعقبة من أوسط أيام التشريق، فلما فرغنا من احلج، كانت الليلة‬
               ‫و‬
     ‫اليت واعدنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم هلا، ومعنا عبد اهلل بن عمرو بن حرام أبو جابر، سيد من ساداتنا، وشريف من‬
                                                ‫ََ‬
 ‫أشرافنا، أخذناه معنا ـ كنا نكتم من معنا من قومنا من كني أمرنا ـ فكلمناه وقلنا له: يا أبا جابر، إنك سيد من ساداتنا،‬
                                                                  ‫املشر‬                              ‫و‬
    ‫وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدا. مث دعوناه إىل اإلسالم، وأخربناه مبيعاد رسول‬
                                                     ‫ً‬
                                               ‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم إيانا العقبة، قال: فأسلم وشهد معنا العقبة كان نقيبًا.‬
                                                         ‫و‬
‫قال كعب: فنمنا تلك الليلة مع قومنا يف رحالنا حىت إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا مليعاد رسول اهلل‬         ‫‪‬‬
      ‫صلى اهلل عليه وسلم، نتسلل تسلل القطَا، مستخفني، حىت اجتمعنا يف ِّعب عند العقبة، وحنن ثالثة‬
                               ‫الش ْ‬                               ‫َ‬
       ‫وسبعون رجال، وامرأتان من نسائنا؛ نُسْيبَة بنت كعب ـ أم عمارة ـ من بين مازن بن النجار،وأمساء بنت‬
                                             ‫َُ‬                   ‫َ‬                         ‫ً‬
                                                                           ‫عمرو ـ أم منيع ـ من بين سلمة.‬
‫فاجتمعنا يف الشعب ننتظر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حىت جاءنا، ومعه عمه: العباس بن عبد املطلب‬
         ‫ـ وهو يومئذ على دين قومه ـ إال أنه أحب أن حيضر أمر ابن أخيه، ويتوثق له، كان أول متكلم.‬
                        ‫و‬
                                                            ‫بداية احملادثة وتشريح العباس خلطورة املسئولية‬
 ‫وبعد أن تكامل اجمللس بدأت احملادثات إلبرام التحالف الديىن والعسكرى، كان أول املتكلمني هو العباس‬
                             ‫و‬
 ‫بن عبد املطلب عم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم، تكلم ح هلم ـ بكل صراحة ـ خطورة املسئولية اليت‬
                                         ‫ليشر‬
                                                  ‫ستلقى على كواهلهم نتيجة هذا التحالف. قال:‬
‫يا معشر ج ـ كان العرب يسمون األنصار خزرجـًا، خزرجـها وأوسـها كليهما ـ إن حممدا منا‬
     ‫ً‬                                                                    ‫اخلزر و‬              ‫‪‬‬
   ‫حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه،فهو يف عز من قومه ومنعة‬
        ‫يف بلده. وإنه قد أيب إال االحنياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له مبا‬
    ‫دعومتوه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما حتملتم من ذلك. وإن كنتم ترون أنكم مسلِموه‬
       ‫ُْ ُ‬
               ‫وخاذلوه بعد اخلروج به إليكم فمن اآلن فدعوه. فإنه يف عز ومنعة من قومه وبلده.‬
‫قال كعب: فقلنا له: قد مسعنا ما قلت، فتكلم يا رسول اهلل ، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت.‬
      ‫وهذا اجلواب يدل على ما كانوا عليه من عزم صميم، وشجاعة مؤمنة، وإخالص كامل يف‬
                                          ‫حتمل هذه املسئولية العظيمة، وحتمل عواقبها اخلطرية.‬
                           ‫وألقى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بعد ذلك بيانه، مث متت البيعة.‬
‫وذهب النيب صلى اهلل عليه وسلم يف اهلاجرة ـ حني يسرتيح الناس يف بيوهتم ـ إىل أيب بكر رضي اهلل عنه ليربم معه مراحل اهلجرة، قالت عائشة رضي اهلل عنها: بينما‬         ‫‪‬‬
  ‫حنن جلوس يف بيت أيب بكر يف حنر الظهرية، قال قائل أليب بكر: هذا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم متقنعا، يف ساعة مل يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداء له‬
                                                      ‫ً‬
                                                                                                           ‫أيب وأمى، واهلل ما جاء به يف هذه الساعة إال أمر.‬
      ‫قالت: فجاء رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم. ، فاستأذن،فأذن له فدخل، فقال النيب صلى اهلل عليه وسلم أليب بكر: [ ج من عندك]. فقال أبو بكر: إمنا هم‬
                                     ‫أخر َ ْ‬
  ‫أهلك، بأيب أنت يا رسول اهلل . قال: [فأين قد أذن ىل يف اخلروج]، فقال أبو بكر: الصحبة بأيب أنت يا رسول اهلل ؟ قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم: [نعم].‬
‫مث أبرم معه خطة اهلجرة، ورجع إىل بيته ينتظر جمىء الليل. وقد استمر يف أعماله اليومية حسب املعتاد حىت مل يشعر أحد بأنه يستعد للهجرة، أو ألي أمر آخر اتقاء‬
                                                                                                                                              ‫مما قررته قريش.‬
                                                                                                                     ‫تطويق منزل الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
     ‫أما أكابر جمرمي قريش فقضوا هنارهم يف اإلعداد سرا لتنفيذ اخلطة املرسومة الىت أبرمها برملان مكة [دار الندوة] صباحا، واختري لذلك أحد عشر رئيسا من هؤالء‬
                ‫ً‬                             ‫ً‬
                                                                                                                                               ‫األكابر، وهم:‬
                                                                                                                                     ‫1ـ أبو جهل بن هشام.‬
                                                                                                                                    ‫2ـ احلَكم بن أيب العاص.‬
                                                                                                                                                       ‫َ‬
                                                                                                                                      ‫3ـ عقبَة بن أيب معْيط.‬
                                                                                                                                           ‫َُ‬             ‫ُْ‬
                                                                                                                                       ‫4ـ النَّضر بن احلارث.‬
                                                                                                                                                       ‫ْ‬
                                                                                                                                           ‫5ـ أُمية بن خلَف.‬
                                                                                                                                                 ‫َ‬
                                                                                                                                         ‫6ـ زمعة بن األسود.‬
                                                                                                                                                         ‫َْ َ‬
                                                                                                                                            ‫ِ‬
                                                                                                                                        ‫7ـ طُعْيمة بن عدى.‬
                                                                                                                                          ‫َ ّ‬            ‫َ‬
                                                                                                                                                ‫8 ـ أبو هلب.‬
                                                                                                                                            ‫9ـ أيب بن خلف.‬
                                                                                                                                       ‫01ـ نـُبَـْيه بن احلجاج.‬
                                                                                                                                  ‫11ـ أخوه منَبِّه بن احلجاج.‬
                                                                                                                                                   ‫ُ‬
‫كان من عادة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن ينام يف أوائل الليل بعد صالة العشاء، ج بعد نصف الليل إىل املسجد احلرام،‬
                                  ‫وخير‬                                                                               ‫و‬                            ‫‪‬‬
‫يصلي فيه قيام الليل، فأمر عليًا رضي اهلل عنه تلك الليلة أن يضطجع على فراشه، ويتسجى بربده احلضرمي األخضر، وأخربه أنه ال‬
                                                                                                         ‫يصيبه مكروه.‬
    ‫فلما كانت عتمة من الليل وساد اهلدوء، ونام عامة الناس جاء املذكورون إىل بيته صلى اهلل عليه وسلم سرا، واجتمعوا على بابه‬
                        ‫ً‬
                                                ‫يرصدونه، وهم يظنونه نائما حىت إذا قام ج وثبوا عليه، ونفذوا ما قرروا فيه.‬
                                                                                  ‫وخر‬             ‫ً‬
 ‫كانوا على ثقة ويقني جازم من جناح هذه املؤامرة الدنية، حىت وقف أبو جهل وقفة الزهو واخليالء، وقال خماطبًا ألصحابه املطوقني‬
                                                                                                                        ‫و‬
‫يف سخرية واستهزاء: إن حممدا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، مث بعثتم من بعد موتكم، فجعلت لكم‬
                                                                                               ‫ً‬
               ‫جنان كجنان األردن، وإن مل تفعلوا كان له فيكم ذبح، مث بعثتم من بعد موتكم، مث جعلت لكم نار حترقون فيها.‬
       ‫وقد كان ميعاد تنفيذ تلك املؤامرة بعد منتصف الليل يف وقت خروجه صلى اهلل عليه وسلم من البيت، فباتوا متيقظني ينتظرون‬
 ‫ساعة الصفر، ولكن اهلل غالب على أمره، بيده ملكوت السموات واألرض، يفعل ما يشاء، وهو جيري وال جيـار عليه، فقـد فعـل مـا‬
   ‫خاطب به الرسول صلى اهلل عليه وسلم فيما بعد: {وإِذ َْكر بِك الَّذين كفرواْ لِيُثْبِتُوك أَو يَـقتُـلُوك أَو خيْرجوك وَْكرون وَْكر اهللُ‬
                              ‫ِ‬
         ‫َ ْ ْ َ ْ ُ ُ َ َْي ُ ُ َ َْي ُ ُ‬
                                                                          ‫ِ‬
                                                                   ‫َ ْ ْي ُ ُ َ َ َ َ ُ‬
                                                                                                         ‫واهللُ خْيـر الْماكِرين} [األنفال:03].‬
                                                                                                                          ‫َ َُ َ َِ‬
                                                                                                    ‫الرسول صلى اهلل عليه وسلم يغادر بيته‬
‫ج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من باب بيته ومن بيت صفوف الكفار دون ان حيسو‬            ‫خر‬     ‫‪‬‬
   ‫به، وانطلق هو وابو بكر الصديق إىل غار ثور، حيث تبعهم كون لكن عمي عليهم‬
                         ‫املشر‬
                           ‫بسبب احلمام الذي بىن عشه على باب الغار، وبيت العنكبوت.‬
   ‫تابعا طريقهما إىل يثرب فلحقهما سراقة بن مالك طمعا يف مكافأة قريش ، فعرض عليه‬              ‫‪‬‬
 ‫صلى اهلل عليه وسلم العودة على ان يعطى سواري كسرى (ملك الفرس يف ذلك الزمان) ،‬
                   ‫وما كان لسراقة ملا علم على رسولنا الكرمي من الصدق إال أن قبل وعاد.‬
  ‫أقام رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بقباء أربعة أيام: االثنني والثالثاء واألربعاء واخلميس.‬   ‫‪‬‬
  ‫وأسس مسجد قباء وصلى فيه، وهو أول مسجد أسس على التقوى بعد النبوة، فلما كان‬
      ‫اليوم اخلامس ـ يوم اجلمعة ـ كب بأمر اهلل له، وأبو بكر ردفه، وأرسل إىل بين النجار ـ‬
                                                              ‫ر‬
‫أخواله ـ فجاءوا متقلدين سيوفهم، فسار حنو املدينة وهم حوله، و كته اجلمعة يف بين سامل‬
                       ‫أدر‬
                 ‫بن عوف، فجمع هبم يف املسجد الذي يف بطن الوادى، كانوا مائة رجل.‬
                                ‫و‬
‫مث سار النيب صلى اهلل عليه وسلم بعد اجلمعة حىت دخل املدينة ـ ومن ذلك اليوم‬               ‫‪‬‬
‫مسيت بلدة يثرب مبدينة الرسول صلى اهلل عليه وسلم، ويعرب عنها باملدينة خمتصرا ـ‬
   ‫ً‬
   ‫كان يوما مشهودا أغر، فقد ارجتت البيوت والسكك بأصوات احلمد والتسبيح،‬
                                                                     ‫ً‬        ‫ً‬        ‫و‬
                                      ‫وتغنت بنات األنصار بغاية ح والسرور:‬
                                                   ‫الفر‬
                                            ‫طـلـع الـبــدر علـينا **مـن ثـنيــات الـوداع‬
                                         ‫وجـب الشـكـر علـينا ** م ــا دعــا لـلـه داع‬
                                       ‫أيـهـا املبـعـوث فـينا ** جـئـت بـاألمـر املطاع‬
‫‪ ‬كان أول ما قام به صصلى اهلل عليه وسلم يف املدينة :‬
                                                                  ‫1- أخى بني املهاجرين واألنصار.‬
                                                                            ‫2- بناء املسجد النبوي.‬
                                                        ‫3-ابرام معاهدة الدفاع عن املدينة مع اليهود.‬
                                                     ‫‪ْ ‬يكن تقسيم العهد املدين إىل ثالث مراحل:‬
‫1 ـ مرحلة تأسيس اجملتمع اإلسالمي، ومتكني الدعوة اإلسالمية، وقد أثريت يف هذه املرحلة القالقل‬
‫والفنت من الداخل، وزحف فيها األعداء من ج؛ ليستأصلوا شأفة املسلمني، ويقلعوا الدعوة من‬
                                               ‫اخلار‬
 ‫جذورها. وقد انتهت هذه املرحلة بتغلب املسلمني وسيطرهتم على املوقف مع عقد صلح احلديبية‬
                                                           ‫يف ذى القعدة سنة ست من اهلجرة.‬
       ‫2 ـ مرحلة الصلح مع العدو األكرب، والفراغ لدعوة ملوك األرض إىل اإلسالم، وللقضاء على‬
      ‫أطراف املؤامرات. وقد انتهت هذه املرحلة بفتح مكة املكرمة يف رمضان سنة مثان من اهلجرة.‬
    ‫3 ـ مرحلة استقبال الوفود، ودخول الناس يف دين اهلل أفواجا. وقد امتدت هذه املرحلة إىل وفاة‬
                                      ‫ً‬
                         ‫الرسول صلى اهلل عليه وسلم يف ربيع األول سنة إحدى عشرة من اهلجرة.‬
‫وقعت يف السنة الثانية هلجرة، عندما علم املسلمون بوجود قافلة جتارية لقريش عائدة‬        ‫‪‬‬
‫من الشام، فخرجو لإلستيالء عليها ، إال ان ابا سفيان غري ريقها وارسل اىل قريش‬
                                             ‫لتحذيرهم فخرجو اليه ب 059 مقاتل.‬
                     ‫التقى اجلمعان عند ابار بدر يف منطقة قريبة من املدينة املنورة.‬    ‫‪‬‬

‫كانت نتائج كة استشهاد 41 رجال من املسلمني لقاء نقتل 07 من كني و‬
     ‫املشر‬                                                        ‫املعر‬               ‫‪‬‬
                                                                   ‫اسر 07 اخرين.‬
  ‫كان يهود بين قينقاع خانو معاهدهتم فامر الرسول صلى اهلل عليه وسلم باجالئهم‬           ‫‪‬‬
                                                                        ‫عن املدينة.‬
‫وقعت يف السنة الثالثة للهجرة، عندما أراد كوا قريش ان يثأروا هلزْيتهم يف بدر، فجمعو 0003‬
                                              ‫مشر‬                                             ‫‪‬‬
    ‫مقاتل واجتهو غلى املدينة ، اليت مجعت 0001 مقاتل وخرجوا ملالقاة كني يف جبل أحد.‬
                     ‫املشر‬
                                                                        ‫كانت كة أجزاء‬
                                                                                ‫للمعر‬         ‫‪‬‬

                                                 ‫فجزئها األول هو االنتصار اجلزئي للمسلمني.‬    ‫‪‬‬

 ‫اما جزئها الثاين فهو عصيان الرماة ألوامر رسول اهلل ونزوهلم عن اجلبل االمر الذي مكن خالد بن‬   ‫‪‬‬
                                          ‫الوليد من اإللتفات على جيش املسلمني و تشتيته.‬
    ‫اجلزء الثالث هو دعوة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كني اىل موقعة محراء األسد لتحديد‬
                                   ‫املشر‬                                                      ‫‪‬‬
      ‫الفائز، كان من عادات الفائز ان خييم مبكان كة ثالثة ايام و هذا ما مل يفعله كون.‬
         ‫املشر‬                             ‫املعر‬                                   ‫و‬
                                    ‫استشهاد كل من محزة بن عبداملطلب و مصعب بن عمري.‬           ‫‪‬‬

                                                                     ‫اجالء يهود بين النضري.‬   ‫‪‬‬
‫وقعت يف السنة اخلامسة للهجرة، كان سببها هو رغبة كني يف اجلزيرة العربية‬
                      ‫املشر‬                  ‫و‬                                     ‫‪‬‬
  ‫بإهناء املسلمني و دولتهم ، فاجتمعت األحزاب و مجعوا 00001 مقاتل وقدمو‬
              ‫للمدينة، فتفاجئو باخلندق الذي حفر حوهلا مبشورة سلمان الفارسي.‬
 ‫حماولة العبور من كني، واملكافحة املتواصلة من املسلمني، دامت أياماً، إال أن‬
                                                         ‫املشر‬                     ‫‪‬‬
 ‫اخلندق ملا كان حائالً بني اجليشني مل جير بينهما قتال مباشر أو حرب دامية، بل‬
                                                 ‫اقتصروا على املراماة واملناضلة.‬
                          ‫فشلت كل حماوالت اخرتاق اخلندق من جهة املشكرين.‬           ‫‪‬‬

      ‫ارسل اهلل تعاىل عليهم رحيا صرصرا قلبت قدورهم وخيامهم فرجعوا مهزومني.‬         ‫‪‬‬

‫قتل كل رجال يهود بين قريظة خليانتهم العهد ومساعدة العدو على دخول املدينة.‬          ‫‪‬‬
‫وملا تطورت الظروف يف اجلزيزة العربية إىل حد كبري لصاحل املسلمني، أخذت طالئع الفتح األعظم وجناح الدعوة اإلسالمية تبدو شيئاً‬             ‫‪‬‬
    ‫فشيئاً، وبدأت التمهيدات إلقرار حق املسلمني يف أداء عبادهتم يف املسجد احلرام، الذي كان قد صد عنه كون منذ ستة أعوام.‬
                        ‫املشر‬
        ‫أري رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف املنام، وهو باملدينة، أنه دخل هو وأصحابه املسجد احلرام، وأخذ مفتاح الكعبة، وطافوا‬
     ‫واعتمروا، وحلق بعضهم وقصر بعضهم، فأخرب بذلك أصحابه ففرحوا، وحسبوا أهنم داخلو مكة عامهم ذلك، وأخرب أصحابه أنه‬
                                                                                                                ‫معتمر فتجهزوا للسفر.‬
                                                                                                                     ‫استنفار املسلمني‬
          ‫واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي ليخرجوا معه، فأبطأ كثري من األعراب، أما هو فغسل ثيابه، كب ناقته القصواء،‬
               ‫َ ْ‬            ‫ور‬
‫واستخلف على املدينة ابن أم مكتوم أو منَْيـلَة الليثي. ج منها يوم اإلثنني غرة ذي القعدة سنة 6 هـ، ومعه زوجته أم سلمة، يف ألف‬
                                                                          ‫وخر‬               ‫ُ‬
                                     ‫وأربعمائة، ويقال: ألف ومخسمائة، ومل ج معه بسالح، إال سالح املسافر: السيوف يف القرب.‬
                                        ‫ُُ‬                                                ‫خير‬
                                                                                                            ‫املسلمون كون إىل مكة‬
                                                                                                                       ‫يتحر‬
     ‫وحترك يف اجتاه مكة، فلما كان بذي احلُلَيْـفة قَـلَّد اهلدي وأشعره، وأحرم بالعمرة؛ ليأمن الناس من حربه، وبعث بني يديه عيناً له من‬
                                                                     ‫ْ ََ‬                 ‫َ‬
‫خزاعة خيربه عن قريش، حىت إذا كان قريباً من عسفان أتاه عينه، فقال: إين كت كعب بن لؤي قد مجعوا لك األحابيش ، ومجعوا لك‬
                                                     ‫تر‬                       ‫ُ َْ‬
    ‫مجوعاً، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، واستشار النيب صلى اهلل عليه وسلم أصحابه، وقال: (أترون منيل إىل ذراري هؤالء الذين‬
     ‫أعانوهم فنصيبهم؟ فإن قعدوا قعدوا موتورين حمزونني، وإن جنوا يكن عنق قطعها اهلل، أم تريدون أن نؤم هذا البيت فمن صدنا عنه‬
‫قاتلناه؟) فقال أبو بكر: اهلل ورسوله أعلم، إمنا جئنا معتمرين، ومل جنئ لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبني البيت قاتلناه، فقال النيب‬
                                                                                               ‫صلى اهلل عليه وسلم: (فروحوا)، فراحوا.‬
‫حماولة قريش صد املسلمني عن البيت‬       ‫‪‬‬
   ‫كانت قريش ملا مسعت خبروج النيب صلى اهلل عليه وسلم عقدت جملساً استشارياً قررت فيه صد املسلمني عن البيت كيفما ْيكن، فبعد أن أعرض رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬                ‫و‬
                                                     ‫ِ‬
    ‫عن األحابيش، نقل إليه رجل من بين كعب أن قريشاً نازلة بذي طُوي، وأن مائيت فارس يف قيادة خالد بن الوليد مرابطة بكراع الغَميم يف الطريق الرئيسي الذي يوصل إىل مكة.‬
                                                        ‫َُ‬                                                   ‫َ‬
      ‫وقد حاول خالد صد املسلمني، فقام بفرسانه إزاءهم يرتاءي اجليشان. ورأي خالد املسلمني يف صالة الظهر كعون ويسجدون، فقال: لقد كانوا على غرة، لو كنا محلنا عليهم‬
                                                                    ‫ير‬
                                         ‫ألصبنا منهم، مث قرر أن ْييل على املسلمني ـ وهم يف صالة العصر ـ ميلة واحدة، ولكن اهلل أنزل حكم صالة اخلوف، ففاتت الفرصة خالداً.‬
                                                                                                                                      ‫تبديل الطريق وحماولة اجتناب اللقاء الدامي‬
       ‫وأخذ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم طريقاً وعرا بني شعاب، وسلك هبم ذات اليمني بني ظهري احلَمض يف طريق خترجه على ثنية املرار مهبط احلديبية من أسفل مكة، وترك‬
                                                  ‫َُ‬                        ‫ْ‬                                                    ‫َ ًْ‬
                         ‫الطريق الرئيسي الذي يفضي إىل احلرم ماراً بالتنعيم، كه إىل اليسار، فلما رأي خالد قَـتَـرة اجليش اإلسالمي قد خالفوا عن طريقه انطلق كض نذيراً لقريش.‬
                                             ‫ير‬                                          ‫َ‬                                 ‫تر‬
‫وسار رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حىت إذا كان بثنية املرار كت راحلته، فقال الناس: حل حل، فأحلَّت ، فقالوا: خألت القصواء، فقال النيب صلى اهلل عليه وسلم: (ما خألت‬
                                                                        ‫َْ َْ َ ْ‬                                ‫بر‬
  ‫القصواء، وما ذاك هلا خبلق، ولكن حبسها حابس الفيل)، مث قال: (والذي نفسي بيده ال يسألوين خطة يعظمون فيها حرمات اهلل إال أعطيتهم إياها)، مث زجرها فوثبت به، فعدل‬
‫حىت نزل بأقصي احلديبية، على ََد قليل املاء، إمنا يتربضه الناس تربضاً، فلم يلبث أن نزحوه. فشكوا إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم العطش، ع سهماً من كنانته، مث أمرهم‬
                               ‫فانتز‬                                                                                                           ‫مث‬
                                                                                                                        ‫أن جيعلوه فيه، فواهلل ما زال جييش هلم بالري حىت صدروا.‬
                                                                                                                          ‫بُديْل يتوسط بني رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وقريش‬‫َ‬
     ‫وملا اطمأن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم جاء بديل بن ورقَاء اخلزاعي يف نفر من خزاعة، كانت خزاعة عْيبَة نُصح لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من أهل تُهامة، فقال: إين‬
                  ‫ـَ َ‬                                            ‫َ ْ‬                ‫و‬                               ‫َْ‬
‫كت كعب ابن لؤي، نزلوا أعداد مياه احلديبية، معهم العُوذ املطَافِيل ، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم: (إنا مل جنئ لقتال أحد، ولكنا جئنا‬
                                                                                       ‫َ‬                                                                                     ‫تر‬
    ‫معتمرين، وإن قريشاً قد هنكتهم احلرب وأضرت هبم، فإن شاءوا ماددهتم، وخيلوا بيين وبني الناس، وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإال فقد مجُّوا ، وإن هم أبوا‬
                       ‫َ‬
                                                                                 ‫إال القتال فوالذي نفسي بيده ألقاتلنهم على أمري هذا حىت تنفرد سالفيت، أو لينفذن اهلل أمره).‬
                                       ‫قال بديل: سأبلغهم ما تقول، فانطلق حىت أيت قريشاً، فقال: إين قد جئتكم من عند هذا الرجل، ومسعته يقول قوال، فإن شئتم عرضته عليكم.‬
                                                ‫ِ‬
  ‫فقال سفهاؤهم: ال حاجة لنا أن حتدثنا عنه بشيء. وقال ذوو الرأي منهم: هات ما مسعته. قال: مسعته يقول كذا كذا، فبعثت قريش م ْرز بن حفص، فلما رآه رسول اهلل صلى‬
                                            ‫كَ‬                  ‫و‬
                                                              ‫اهلل عليه وسلم قال: هذا رجل غادر، فلما جاء وتكلم قال له مثل ما قال لبديل وأصحابه، فرجع إىل قريش وأخربهم.‬
‫بُديْل يتوسط بني رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وقريش‬   ‫َ‬    ‫‪‬‬
   ‫وملا اطمأن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم جاء بديل بن ورقَاء اخلزاعي يف نفر من خزاعة، كانت خزاعة‬
                ‫و‬                               ‫َْ‬
   ‫عْيبَة نُصح لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من أهل تُـهامة، فقال: إين كت كعب ابن لؤي، نزلوا أعداد‬
                                    ‫تر‬             ‫ََ‬                                               ‫َ ْ‬
      ‫يل ، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. قال رسول اهلل صلى اهلل عليه‬       ‫مياه احلديبية، معهم العوذ املطَافِ‬
                                                   ‫َ‬                                 ‫ُ‬
‫وسلم: (إنا مل جنئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد هنكتهم احلرب وأضرت هبم، فإن شاءوا‬
‫ماددهتم، وخيلوا بيين وبني الناس، وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإال فقد مجُّوا ، وإن هم‬
              ‫َ‬
        ‫أبوا إال القتال فوالذي نفسي بيده ألقاتلنهم على أمري هذا حىت تنفرد سالفيت، أو لينفذن اهلل أمره).‬
   ‫قال بديل: سأبلغهم ما تقول، فانطلق حىت أيت قريشاً، فقال: إين قد جئتكم من عند هذا الرجل، ومسعته‬
                                                                    ‫يقول قوال، فإن شئتم عرضته عليكم.‬
    ‫فقال سفهاؤهم: ال حاجة لنا أن حتدثنا عنه بشيء. وقال ذوو الرأي منهم: هات ما مسعته. قال: مسعته‬
                                                                           ‫ِ‬
   ‫يقول كذا كذا، فبعثت قريش م ْرز بن حفص، فلما رآه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال: هذا رجل‬
                                                                        ‫كَ‬                      ‫و‬
                      ‫غادر، فلما جاء وتكلم قال له مثل ما قال لبديل وأصحابه، فرجع إىل قريش وأخربهم.‬
‫رسل قريش‬     ‫‪‬‬
  ‫مث قال رجل من كنانة ـ امسه احلُلَْيس بن علقمة: دعوين آته. فقالوا: ائته، فلما أشرف على النيب صلى اهلل عليه وسلم وأصحابه قال‬
    ‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم: (هذا فالن، وهو من قوم يعظمون البدن، فابعثوها)، فبعثوها له، واستقبله القوم يلبون، فلما رأي‬
  ‫ذلك. قال: سبحان اهلل ما ينبغي هلؤالء أن يصدوا عن البيت، فرجع إىل أصحابه، فقال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، وما أري‬
                                                                                 ‫أن يصدوا، وجري بينه وبني قريش كالم أحفظه.‬
  ‫فقال عروة بن مسعود الثقفي: إن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، ودعوين آته، فأتاه، فجعل يكلمه، فقال له النيب صلى‬
                                                                  ‫ُْ‬
    ‫اهلل عليه وسلم حنواً من قوله لبديل. فقال له عروة عند ذلك: أي حممد أرأيت لو استأصلت قومك، هل مسعت بأحد من العرب‬
‫اجتاح أهله قبلك، وإن تكن األخري فواهلل إين ال أري وجوها، وإين أري أوباشا من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك، قال له أبو بكر:‬
            ‫ْ َِ‬
     ‫امصص بَظْر الالت، أحنن نفر عنه؟ قال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده لوال يد كانت عندي مل أجزك هبا‬
  ‫ألجبتك. وجعل يكلم النيب صلى اهلل عليه وسلم، كلما كلمه أخذ بلحيته، واملغرية بن شعبة عند رأس النيب صلى اهلل عليه وسلم،‬
                                                                             ‫و‬
‫ومعه السيف وعليه املِغفر، فكلما أهوي عروة إىل حلية النيب صلى اهلل عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف، وقال: أخر يدك عن حلية‬
                                                                                                        ‫َُْ‬
            ‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم، فرفع عروة رأسه، وقال: من ذا؟ قالوا: املغرية بن شعبة، فقال: أي عذر، أو لست أسعي يف‬
                      ‫ُ‬          ‫َُ‬
 ‫غدرتِك؟ كان املغرية صحب قوماً يف اجلاهلية فقتلهم وأخذ أمواهلم، مث جاء فأسلم، فقال النبـي صلى اهلل عليه وسلم: (أما اإلسالم‬
                                                                                                    ‫َ َ‬
                                                                                                       ‫ِ‬            ‫ََْ و‬
                                                             ‫فأقبل، وأما املال فلست منـه فـي شيء) ( كان املغرية ابن أخي عروة).‬
                                                                                      ‫و‬                                  ‫ُ‬
  ‫مث إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وتعظيمهم له، فرجع إىل أصحابه، فقال: أي قوم، واهلل لقد وفدت‬
      ‫على امللوك، على قيصر كسري والنجاشي، واهلل ما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب حممد حممداً، واهلل إن تَـنَخم‬
       ‫َّ َ‬                                                                                            ‫و‬
   ‫خنامة إال وقعت يف كف رجل منهم، فدلك هبا وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا‬
                                           ‫ٍْ‬                                               ‫ُِد‬
                                 ‫تكلم خفضوا أصواهتم عنده، وما حي ُّون إليه النظر تعظيماً له، وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.‬
                                              ‫ُ‬
‫هو الذي كف أيديهم عنكم‬            ‫‪‬‬
         ‫وملا رأي شباب قريش الطائشون، الطاحمون إىل احلرب، رغبة زعمائهم يف الصلح فكروا يف خطة حتول بينهم وبني‬
‫الصلح، فقرروا أن خيرجوا ليالً، ويتسللوا إىل معسكر املسلمني، وحيدثوا أحداثاً تشعل نار احلرب، وفعالً قد قاموا بتنفيذ‬
 ‫هذا القرار، فقد ج سبعون أو مثانون منهم ليالً فهبطوا من جبل التنعيم، وحاولوا التسلل إىل معسكر املسلمني، غري‬
                                                                                                   ‫خر‬
                                                                     ‫أن حممد بن مسلمة قائد احلرس اعتقلهم مجيعاً.‬
     ‫ِ‬           ‫ِ‬
‫ورغبة ف ــي الصلــح أطلـق سراحهم النيب صلى اهلل عليه وسلم وعفا عنـهم، ويف ذلك أنزل اهلل: {وهو الَّذي كف أَيْديـَهم‬
‫َ َّ ُ ْ‬             ‫َ َُ‬                                    ‫ِ َ َّ ِ ْ ِ ْ َ رُ َ ِ‬                         ‫ِ‬
                                           ‫عنكم وأَيْديَكم عْنـهم بِبَطْن مكةَ من بـَعد أَن أَظْفكم علَْيهم} [الفتح: 42]‬
                                                           ‫ْ‬      ‫َْ‬                               ‫َ ُْ َ ُْ َ ُ‬
                                                                                      ‫عثمان بن عفان سفرياً إىل قريش‬
 ‫وحينئذ أراد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن يبعث سفرياً كد لدي قريش موقفه وهدفه من هذا السفر، فدعا عمر‬
                                                        ‫يؤ‬
          ‫بن اخلطاب لريسله إليهم، فاعتذر قائالً: يا رسول اهلل، ليس يل أحد مبكة من بين عدي بن كعب يغضب يل إن‬
‫أوذيت، فأرسل عثمان بن عفان، فإن عشريته هبا، وإنه مبلغ ما أردت، فدعاه، وأرسله إىل قريش، وقال: أخربهم أنا مل‬
          ‫نأت لقتال، وإمنا جئنا عماراً، وادعهم إىل اإلسالم، وأمره أن يأيت رجاالً مبكة مؤمنني، ونساء مؤمنات، فيبشرهم‬
                                ‫بالفتح، وخيربهم أن اهلل عز وجل مظهر دينه مبكة، حىت ال يستخفي فيها أحد باإلْيان.‬
  ‫فانطلق عثمان حىت مر على قريش بِبَـ ْلدح، فقالوا: أين تريد؟ فقال: بعثين رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بكذا كذا،‬
        ‫و‬                                                                     ‫َ‬
‫قالوا: قد مسعنا ما تقول، فانفذ حلاجتك، وقام إليه أبان ابن سعيد بن العاص، فرحب به مث ج فرسه، فحمل عثمان‬
                          ‫أسر‬
    ‫على الفرس، وأجاره وأردفه حىت جاء مكة، وبلغ الرسالة إىل زعماء قريش، فلما غ عرضوا عليه أن يطوف بالبيت،‬
                                     ‫فر‬
                                       ‫فرفض هذا العرض، وأيب أن يطوف حىت يطوف رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم.‬
‫إشاعة مقتل عثمان وبيعة الرضوان‬            ‫‪‬‬
       ‫واحتبسته قريش عندها ـ ولعلهم أرادوا أن يتشاوروا فيما بينهم يف الوضع الراهن، ويربموا أمرهم، مث يردوا‬
‫عثمان جبواب ما جاء به من الرسالة ـ وطال االحتباس، فشاع بني املسلمني أن عثمان قتل، فقال رسول اهلل‬
    ‫صلى اهلل عليه وسلم ملا بلغته اإلشاعة: (ال نربح حىت نناجز القوم)، مث دعا أصحابه إىل البيعة، فثاروا إليه‬
        ‫يبايعونه على أال يفروا، وبايعته مجاعة على املوت، وأول من بايعه أبو سنان األسدي، وبايعه سلمة بن‬
    ‫األكوع على املوت ثالث مرات، يف أول الناس ووسطهم وآخرهم، وأخذ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫بيد نفسه وقال: (هذه عن عثمان). وملا متت البيعة جاء عثمان فبايعه، ومل يتخلف عن هذه البيعة إال رجل‬
                                                                                    ‫َ ُّ‬
                                                                         ‫من املنافقني يقال له: جد بن قَـْيس.‬
                     ‫ِ‬
‫أخذ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم هذه البيعة حتت شجرة، كان عمر آخذا بيده، ومعقل بن يَسار آخذا‬
                                              ‫و‬
            ‫َ‬          ‫َْ‬
 ‫بغصن الشجرة يرفعه عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم، وهذه هي بيعة الرضوان اليت أنزل اهلل فيها: {لَقد‬
 ‫َْ‬
                                        ‫رضي اللَّهُ عن الْمؤمنِني إِذ يـُبَايِعونَك حتْت َّجرةِ}اآلية [الفتح: 81]‬
                                                             ‫َ ِ ُ ْ َ ْ ُ َ َ َ الش َ َ‬
                                                                                            ‫ِ‬                  ‫ِ‬
                                                                                                                 ‫َ‬
                                                                                              ‫إبرامَ الصلح وبنوده‬
      ‫وعرفت قريش ضيق املوقف، فأسرعت إىل بعث سهْيل بن عمرو لعقد الصلح، وأكدت له أال يكون يف‬
                                                         ‫َُ‬
         ‫الصلح إال أن يرجع عنا عامه هذا، ال تتحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبداً، فأتاه سهيل بن‬
        ‫عمرو، فلما رآه  قال: (قد سهل لكم كم)، أراد القوم الصلح حني بعثوا هذا الرجل، فجاء سهيل‬
                                                                  ‫أمر‬
                                                                    ‫فتكلم طويالً، مث اتفقا على قواعد الصلح،‬
‫كانت خيرب مدينة كبرية ذات حصون ومز ع على بعد مثانني ميال من املدينة يف جهة الشمال، وهي اآلن قرية يف مناخها بعض الوخامة.‬
                                                                                                        ‫ار‬                                             ‫‪‬‬
                                                                                                                                        ‫سبب الغزوة‬
       ‫وملا اطمأن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من أقوي أجنحة األحزاب الثالثة، وهو قريش، وأمن منه متاماً بعد صلح احلديبية أراد أن حياسب‬
     ‫اجلناحني الباقيني ـ اليهود وقبائل جند ـ حىت يتم األمن والسالم، ويسود اهلدوء يف املنطقة، غ املسلمون من الصراع الدامي املتواصل إىل تبليغ‬
                                                     ‫ويفر‬
                                                                                                                           ‫رسالة اهلل والدعوة إليه.‬
‫وملا كانت خيرب هي كرة الدس والتآمر كز االستفزازات العسكرية، ومعدن التحرشات وإثارة احلروب، كانت هي اجلديرة بالتفات املسلمني أوال.‬
                                                                                                         ‫ومر‬                ‫و‬
    ‫أما كون خيرب هبذه الصفة، فال ننسي أن أهل خيرب هم الذين حزبوا األحزاب ضد املسلمني، وأثاروا بين قريظة على الغدر واخليانة، مث أخذوا يف‬
    ‫االتصاالت باملنافقني ـ الطابور اخلامس يف اجملتمع اإلسالمي ـ وبغطفان وأعراب البادية ـ اجلناح الثالث من األحزاب ـ كانوا هم أنفسهم يتهيأون‬
                              ‫و‬
     ‫للقتال، فألقوا املسلمني بإجراءاهتم هذه يف حمن متوصلة، حىت وضعوا خطة الغتيال النيب صلى اهلل عليه وسلم، وإزاء ذلك اضطر املسلمون إىل‬
                                                                 ‫ِ‬
  ‫بعوث متواصلة، وإىل الفتك برأس هؤالء املتآمرين، مثل سالم بن أيب احلُقْيق، وأسري بن زارم، ولكن الواجب على املسلمني إزاء هؤالء اليهود كان‬
                                                                          ‫َ‬
‫أكرب من ذلك، وإمنا أبطأوا يف القيام هبذا الواجب ؛ ألن قوة أكرب وأقوي وألد وأعند منهم ـ وهي قريش ـ كانت جماهبة للمسلمني، فلما انتهت هذه‬
                                                                                   ‫اجملاهبة صفا اجلو حملاسبة هؤالء اجملرمني، واقرتب هلم يوم احلساب.‬
                                                                                                                                   ‫اخلروج إىل خيرب‬
      ‫قال ابن إسحاق: أقام رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم باملدينة حني رجع من احلديبية ذا احلجة وبعض احملرم، مث ج يف بقية احملرم إىل خيرب.‬
                                ‫خر‬
                                                                   ‫ِ‬
      ‫قال املفسرون: إن خيرب كانت وعدا وعدها اهلل تعاىل بقوله: {وعدكم اللَّهُ مغَاِن كثِرية تَأْخذونَـها فَـعجل لَكم هذهِ} [الفتح: 02] يعين صلح‬
                                   ‫َّ ُ ِ‬
                                    ‫َ َ َ ُ ُ َ َ َ ًَ ُ ُ َ َ َ ْ َ‬
                                                                                                                   ‫احلديبية، وباملغاِن الكثرية خيرب.‬
‫عدد اجليش اإلسالمي‬           ‫‪‬‬
           ‫وملا كان املنافقون وضعفاء اإلْيان ختلفوا عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف غزوة احلديبية أمر اهلل تعاىل نبيه صلى اهلل عليه وسلم فيهم قائالً: {سيَـقول‬
            ‫َُ ُ‬
                                                                                                                                                                        ‫ِ‬
     ‫الْمخلَّفون إِذا انطَلَقتُم إِىل مغَاِن لِتَأْخذوها ذرونَا نَـتَّبِعكم يُريدون أَن يـُبَدلُوا كالم اللَّه قُل لَّن تَـتَّبِعونَا كذلِكم قَال اللَّهُ من قَـْبل فَسيَـقولُون بَل حتسدونَـنَا بَل كانُوا ال‬
      ‫َْ َ‬                ‫ُ َ َ ُ ْ َ ِ ُ َ ُ َ ْ َْ ُ ُ‬                                             ‫ِّ َ َ ِ‬
                                                                                                            ‫َ‬                   ‫ُْْ ُِ َ‬                ‫ُ َ ُ ََِّ َ ِ ْ ْ َ َ َ ُ ُ َ َ ُ‬
                                                                                                                                                                  ‫يَـفقهون إال قَليال} [الفتح: 51].‬
                                                                                                                                                                                           ‫ً‬         ‫َُْ َ‬
               ‫فلما أراد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم اخلروج إىل خيرب أعلن أال ج معه إال راغب يف اجلهاد، فلم ج إال أصحاب الشجرة وهم ألف وأربعمائة.‬
                                                                      ‫خير‬                                            ‫خير‬
                                                      ‫واستعمل على املدينة سبَاع بن عرفُطَة الغفاري، وقال ابن إسحاق: منَْيـلَة بن عبد اهلل الليثي، واألول أصح عند احملققني.‬
                                                                                                                          ‫ُ‬                                    ‫ُْ َ‬               ‫ِ‬
       ‫وبعد خروجه صلى اهلل عليه وسلم قدم أبو هريرة املدينة مسلماً، فوايف سباع بن عرفطة يف صالة الصبح، فلما غ من صالته أيت سباعا فزوده، حىت قدم على‬
                                                               ‫فر‬
                                                                                                           ‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم، كلم املسلمني كوه وأصحابه يف سهماهنم.‬
                                                                                                                                          ‫فأشر‬                    ‫و‬
                                                                                                                                                                                  ‫اتصال املنافقني باليهود‬
   ‫وقد قام املنافقون يعملون لليهود، فقد أرسل رأس املنافقني عبد اهلل بن أيب إىل يهود خيرب: إن حممداً قصد قصدكم، وتوجه إليكم، فخذوا كم، وال ختافوا منه‬
                           ‫حذر‬
  ‫فإن عددكم وعدتكم كثرية، وقوم حممد شرذمة قليلون، عزل، ال سالح معهم إال قليل، فلما علم ذلك أهل خيرب، أرسلوا كنانة بن أيب احلقيق وهوذة بن قيس إىل‬
                    ‫َْ َ‬                                                                                                             ‫ّ‬
                                  ‫غطفان يستمدوهنم ؛ ألهنم كانوا حلفاء يهود خيرب، ومظاهرين هلم على املسلمني، وشرطوا هلم نصف مثار خيرب إن هم غلبوا املسلمني.‬
                                                                                                                                                                                           ‫الطريق إىل خيرب‬
‫وسلك رسول صلى اهلل عليه وسلم يف اجتاهه حنو خيرب جـبل عــصر ـ بالكسر، وقيل: بالتحريك ـ مث على الصهباء، مث نزل على واد يقال له: الرجيع، كان بينه وبني‬
                ‫و‬
‫غطفان مسرية يوم وليلة، فتهيأت غطفان وتوجهوا إىل خيرب، إلمداد اليهود، فلما كانوا ببعض الطريق مسعوا من خلفهم حساً ولغطاً، فظنوا أن املسلمني أغاروا على‬
                                                                                                            ‫أهاليهم وأمواهلم فرجعوا، وخلوا بني رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وبني خيرب.‬
‫مث دعا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الدليلني اللذين كانا يسلكان باجليش ـ كان اسم أحدمها: حسْيل ـ ليداله على الطريق األحسن، حىت يدخل خيرب من جهة‬
                                                                           ‫َُ‬                               ‫و‬
                                                                       ‫الشمال ـ أي جهة الشام ـ فيحول بني اليهود وبني طريق فرارهم إىل الشام، كما حيول بينهم وبني غطفان.‬
   ‫قال أحدمها: أنا أدلك يا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم، فأقبل حىت انتهي إىل مفرق الطرق املتعددة وقال: يا رسول اهلل، هذه طرق ْيكن الوصول من كل منها‬
   ‫إىل املقصد، فأمر أن يسمها له واحداً واحداً. قال: اسم واحد منها حزن، فأيب النيب صلى اهلل عليه وسلم من كه، قال: اسم اآلخر شاش، فامتنع منه أيضاً،‬
                                                          ‫سلو‬
          ‫وقال: اسم اآلخر حاطب، فامتنع منه أيضاً، قال حسيل: فما بقي إال واحد. قال عمر: ما امسه؟ قال: مرحب، فاختار النيب صلى اهلل عليه وسلم كه.‬
              ‫سلو‬                                                  ‫َْ َ‬
                                                                                                                                                                                 ‫بعض ما وقع يف الطريق‬
‫1 ـ عن سلمة بن األكوع قال: خرجنا مع النيب صلى اهلل عليه وسلم إىل خيرب فسرنا ليالً، فقال رجل من القوم لعامر: يا عامر، أال تسمعنا من هنيهاتك؟ ـ كان عامر رجالً شاعراً ـ فنزل حيدو بالقوم، يقول:‬
                                                ‫و‬                                                                                                                                                                              ‫‪‬‬
                                                                                                                                                           ‫اللهم لوال أنت ما اهتديـنا ** وال تَصدقْنا وال صلَّيـنـا‬
                                                                                                                                                                   ‫َ‬            ‫َّ‬
                                                                                                                                                         ‫فاغـفر فِداءً لك ما اقْـتَـفيْنا ** وثبِّت األقدام إن القينـا‬
                                                                                                                                                                                          ‫َ‬     ‫َ‬                    ‫َ‬
                                                                                                                                                                                      ‫ِ‬                                  ‫ِ‬
                                                                                                                                                                      ‫وألْـقني سكـينة عــلينا ** إنا إذا صــيح بنا أبينــا‬
                                                                                                                                                                                   ‫َ‬                                   ‫ْ‬
                                                                                                                                                                                               ‫وبالصياح عولُوا عــلينا **‬
                                                                                                                                                                                                                ‫َ َّ‬
                                                  ‫فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم: (من هذا السائق) قــالوا: عــامر بــن األكوع، قال: (يرمحه اهلل): قال رجل من القوم: وجبت يا نيب اهلل، لوال أمتعتنا به.‬
                                                                                        ‫كانوا يعرفون أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ال يستغفر إلنسان خيصه إال استشهد ، وقد وقع ذلك يف حرب خيرب.‬                           ‫و‬
  ‫َّ ويق، فأمر به فثري، فأكل وأكل الناس، مث قام إىل املغرب، فمضمض، ومضمض الناس، مث صلي مل‬
    ‫و‬                                                                                               ‫2 ـ وبالصهباء من أدين خيرب صلي النيب صلى اهلل عليه وسلم العصر، مث دعا باألزواد، فلم يؤت إال بالس ِ‬
                                                                                                                                                                                              ‫يتوضأ ، مث صلي العشاء.‬
‫3 ـ وملا دنا من خيرب وأشرف عليها قال: (قفوا)، فوقــف اجليش، فــقال: (اللهم رب السموات السبع وما أظللن، ورب األرضني السبع وما أقللن، ورب الشياطني وما أضللن، ورب الرياح وما أذرين، فإنا نسألك‬
                                                                                     ‫خري هذه القرية، وخري أهلها، وخري ما فيها، ونعوذ بك من شر هذه القرية، وشر أهلها، وشر ما فيها، أقدموا، بسم اهلل).‬
                                                                                                                                                                                       ‫اجليش اإلسالمي إىل أسوار خيرب‬
  ‫وبات املسلمون الليلة األخرية اليت بدأ يف صباحها القتال قريبًا من خيرب، وال تشعر هبم اليهود، كان النيب صلى اهلل عليه وسلم إذا أيت قوما بليل مل يقرهبم حىت يصبح، فلما أصبح صلي الفجر بغَلَس، كب‬
      ‫ور‬                                                              ‫ً‬                                       ‫و‬
                                                                              ‫ِ‬
   ‫املسلمون، فخرج أهل خيرب مبساحيهم ومكاتلهم، وال يشعرون، بل خرجوا ألرضهم، فلما رأوا اجليش قالوا: حممد، واهلل حممد واخلَميس ، مث رجعوا هاربني إىل مدينتهم، فقال النيب صلى اهلل عليه وسلم: (اهلل‬
                                                                                                                   ‫أكرب، خربت خيرب، اهلل أكرب، خربت خيرب، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح املنذرين).‬
                                                                                                                                                                                                               ‫حصون خيرب‬
                                                                                                                                                ‫كانت خيرب منقسمة إىل شطرين، شطر فيها مخسة حصون:‬                            ‫و‬
                                                                                                                                                                     ‫1 ـ حصن ناعم. 2 ـ حصن الصعب بن معاذ.‬
                                                                                                                                                                                     ‫َّ ْ‬
                                                                                                                                                                                 ‫3 ـ حصن قلعة الزبري. 4 ـ حصن أيب.‬
                                                                                                                                                                                                        ‫5 ـ حصن النِّزار.‬
                                                                                                                                                                                                            ‫ـَ‬
                                                                                   ‫واحلصون الثالثة األويل منها كانت تقع يف منطقة يقال هلا: (النطاة) وأما احلصنان اآلخران فيقعان يف منطقة تسمي َّق.‬
                                                                                     ‫ِّ‬ ‫بالش‬
                                                                                                                                                 ‫أما الشطر الثاين، ويعرف بالكتيبة، ففيه ثالثة حصون فقط:‬
                                                                                                                                          ‫1 ـ حصن القموص [ كان حصن بين أيب احلقيق من بين النضري].‬
                                                                                                                                                                                                ‫و‬         ‫َُ‬
                                                                                                                                                                                                          ‫ِ‬
                                                                                                                                                                                                    ‫2 ـ حصن الوطيح.‬
                                                                                                                                                                                                              ‫َ‬
                                                                                                                                                                                                    ‫3 ـ حصن السالمل.‬
                                                                                                                                                                                                            ‫ُّ‬
‫ويف خيرب حصون وقالع غري هذه الثمانية، إال أهنا كانت صغرية، ال تبلغ إىل درجة هذه القالع يف مناعتها وقوهتا.‬           ‫‪‬‬
                                         ‫والقتال املرير إمنا دار يف الشطر األول منها، أما الشطر الثاين فحصوهنا الثالثة مع كثرة احملاربني فيها سلمت دومنا قتال.‬
                                                                                                                                  ‫معسكر اجليش اإلسالمي‬
    ‫وتقدم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حىت اختار ملعسكره منزالً، فأتاه حبَاب بن املنذر، فقال: يا رسول اهلل، أرأيت هذا املنزل أنزلكه اهلل، أم هو الرأي يف‬
                                                                                      ‫ُ‬
    ‫احلرب؟ قال: (بل هو الرأي) فقال: يا رسول اهلل، إن هذا املنزل قريب جدا من حصن نَطَاة، ومجيع مقاتلي خيرب فيها، وهم يدرون أحوالنا، وحنن ال ندري‬
                                                                                     ‫ً‬
‫أحواهلم، وسهامهم تصل إلينا، وسهامنا ال تصل إليهم، وال نأمن من بياهتم، وأيضا هذا بني النخالت، ومكان غائر، وأرض وخيمة، لو أمرت مبكان خال عن‬
                                                                             ‫ً‬
                                                           ‫هذه املفاسد نتخذه معسكرا، قال صلى اهلل عليه وسلم: (الرأي ما أشرت)، مث حتول إىل مكان آخر.‬
                                                                                                                                ‫ً‬
                                                                                                                                  ‫التهيؤ للقتال وبشارة الفتح‬
         ‫وملا كانت ليلة الدخول ـ وقيل: بل بعد عدة حماوالت وحماربات ـ قال النيب صلى اهلل عليه وسلم: (ألعطني الراية غدا رجالً حيب اهلل ورسوله وحيبه اهلل‬
                                             ‫ً‬
      ‫ورسوله، [يفتح اهلل على يديه ]) فلما أصبح الناس غدوا على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم، كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: (أين علي بن أيب طالب؟)‬
   ‫فقالوا: يا رسول اهلل، هو يشتكي عينيه، قال: (فأرسلوا إليه) ، فأيت به فبصق رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف عينيه، ودعا له، فربئ، كأن مل يكن به وجع،‬
  ‫فأعطاه الراية، فقال: يا رسول اهلل، أقاتلهم حىت يكونوا مثلنا، قال: (انفذ على رسلك، حىت تنزل بساحتهم، مث ادعهم إىل اإلسالم، وأخربهم مبا جيب عليهم‬
                                                                ‫من حق اهلل فيه، فواهلل، ألن يهدي اهلل بك رجال واحدا خري لك من أن يكون لك محر النعم).‬
                                                                                                         ‫ً‬
                                                                                                                               ‫بدء كة وفتح حصن ناعم‬  ‫املعر‬
                                                    ‫أما اليهود فإهنم ملا رأوا اجليش وفروا إىل مدينتهم حتصنوا يف حصوهنم، كان من الطبيعي أن يستعدوا للقتال.‬
                                                                                        ‫و‬
                                                                                            ‫وأول حصن هامجه املسلمون من حصوهنم الثمانية هو حصن ناعم.‬
                              ‫كان خط الدفاع األول لليهود ملكانه االسرتاتيجي، كان هذا احلصن هو حصن مرحب البطل اليهودي الذي كان يعد باأللف.‬
                                                                                                          ‫و‬                                                  ‫و‬
 ‫ج علي بن أيب طالب رضي اهلل عنه باملسلمني إىل هذا احلصن، ودعا اليهود إىل اإلسالم، فرفضوا هذه الدعوة، وبرزوا إىل املسلمني ومعهم ملكهم مرحب،‬                 ‫خر‬
                                   ‫فلما ج إىل ميدان القتال دعا إىل املبارزة، قال سلمة بن األكوع: فلما أتينا خيرب ج ملكهم مرحب خيطر بسيفه يقول:‬
                                                                         ‫خر‬                                                                          ‫خر‬
                                                                                                    ‫َ ي السالح بطل جمَرب‬
                                                                                                       ‫ُ َّ‬              ‫قد علِمت خيرب أين مرحب ** شاكِ‬
                                                                                                                                    ‫َْ َ‬           ‫َ ْ‬
                                                                                                                                ‫إذا احلروب أقبلت تَـلَهب **‬
                                                                                                                                       ‫ْ َّ‬
‫فربز له عمي عامر فقال:‬     ‫‪‬‬
                                                                                                                                                                 ‫قد علمت خيرب أين عامر ** شاكي السالح بطل مغَ ِ‬
                                                                                                                                                               ‫ُ امر‬
  ‫فاختلفا ضربتني، فوقع سيف مرحب يف ترس عمي عامر، وذهب عامر يسفل له، كان سيفه قصريا، فتناول به ساق اليهودي ليضربه، فريجع ذُبَاب سيفه فأصاب عني كبته فمات منه، وقال فيه النيب صلى اهلل عليه‬
                                            ‫ر‬                                                                      ‫ً‬            ‫و‬
                                                                                                                                      ‫ِ‬                ‫ِ ٌ ُ ِ َّ‬
                                                                                                                              ‫وسلم: (إن له ألجرين ـ ومجع بني إصبعيه ـ إنه جلَاهد جمَاهد، قَل عريب مشي هبا مثْـلَه).‬
                                                                                                                                              ‫ََ‬
                                                                                                                                                 ‫ويبدو أن مرحبًا دعا بعد ذلك إىل الرباز مرة أخري وجعل يرجتز بقوله:‬
                                                                                                                   ‫قد علمت خيرب أين مرحب... إخل، فربز له على بن أيب طالب. قال سلمة ابن األكوع: فقال علي:‬
                                                                                                                                                                                    ‫ِ‬
                                                                                                                                                               ‫َ ِ َ َْ‬
                                                                                                                                                               ‫أنا الذي مستين أمي حْيدره ** كلَْيث غابات كريه املْنظَره‬
                                                                                                                                                                                                 ‫َ َ َْ‬
                                                                                                                                                                                          ‫أُوفِيهم بالصاع كيْل السنْدره **‬
                                                                                                                                                                                              ‫َّ َ َّ َ َ ْ‬
                                                                                                                                                                       ‫فضرب رأس مرحب فقتله، مث كان الفتح على يديه.‬
                                                  ‫وملا دنا علي رضي اهلل عنه من حصوهنم اطلع يهودي من رأس احلصن، وقال: من أنت؟ فقال: أنا علي بن أيب طالب، فقال اليهودي: علومت وما أنزل على موسى.‬
                                                                   ‫مث خرج ياسر أخو مرحب، وهو يقول: من يبارز؟ فربز إليه الزبري، فقالت صفية أمه: يا رسول اهلل، يقتل ابين، قال: (بل ابنك يقتله)، فقتله الزبري.‬
‫ودار القتال املرير حول حصن ناعم، قتل فيه عدة سراة من اليهود، اهنارت ألجله مقاومة اليهود، وعجزوا عن صد هجوم املسلمني، ويؤخذ من املصادر أن هذا القتال دام أياما القي املسلمون فيها مقاومة شديدة، إال‬
                                       ‫ً‬
                                                                                                  ‫أن اليهود يئسوا من مقاومة املسلمني، فتسللوا من هذا احلصن إىل حصن الصعب، واقتحم املسلمون حصن ناعم.‬
                                                                                                                                         ‫َّ ْ‬
                                                                                                                                                                                             ‫فتح حصن الصعب بن معاذ‬
‫كان حصن الصعب احلصن الثاين من حيث القوة واملناعة بعد حصن ناعم، قام املسلمون باهلجوم عليه حتت قيادة احلباب بن املنذر األنصاري، ففرضوا عليه احلصار ثالثة أيام، ويف اليوم الثالث، دعا رسول اهلل صلى‬                         ‫و‬
                                                                                                                                                                            ‫اهلل عليه وسلم لفتح هذا احلصن دعوة خاصة.‬
  ‫روي ابن إسحاق أن بين سهم من أسلم أتوا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم، فقالوا: لقد جهدنا، وما بأيدينا من شيء، فقال: (اللهم إنك قد عرفت حاهلم، وأن ليست هبم قوة، وأن ليس بيدي شيء أعطيهم إياه،‬
                                                ‫فافتح عليهم أعظم حصوهنا عنهم غَنَاء، وأكثرها طعاما وودكا). فغدا الناس ففتح اهلل عز وجل حصن الصعب بن معاذ، وما خبيرب حصن كان أكثر طعاما وودكا منه.‬
                                                      ‫ً ً‬                                                                                                  ‫ً َ ًَ‬
      ‫وملا ندب النيب صلى اهلل عليه وسلم املسلمني بعد دعائه ملهامجة هذا احلصن كان بنو أسلم هم املقادمي يف املهامجة، ودار الرباز والقتال أمام احلصن، مث فتح احلصن يف ذلك اليوم قبل أن تغرب الشمس، ووجد فيه‬
                                                                                                                                                                                   ‫املسلمون بعض املنجنيقات والدبابات.‬
     ‫وألجل هذه اجملاعة الشديدة اليت ورد ذكرها يف رواية ابن إسحاق، كان رجال من اجليش قد ذحبوا احلمري، ونصبوا القدور على النريان، فلما علم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بذلك هني عن حلوم احلمر اإلنسية.‬
                                                                                                                                                                                                            ‫فتح قلعة الزبري‬
 ‫ـ ة ، ال تقدر عليه اخليل والرجال لصعوبته وامتناعه، ففرض عليه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم احلصار،‬  ‫وبعد فتح حصن ناعم والصعب حتول اليهود من كل حصون النَّطَاة إىل قلعة الزبري، وهو حصن منيع يف رأس قُلَّ ٍ‬
  ‫وأقام حماصرا ثالثة أيام، فجاء رجل من اليهود، وقال: يا أبا القاسم، إنك لو أقمت شهرا ما بالوا، إن هلم شرابًا وعيونًا حتت األرض، خيرجون بالليل ويشربون منها، مث يرجعون إىل قلعتهم فيمتنعون منك، فإن قطعت‬
                                                                                                                            ‫ً‬                                                                                  ‫ً‬
                                    ‫مشرهبم عليهم أصحروا لك. فقطع ماءهم عليهم، فخرجوا فقاتلوا أشد القتال، قتل فيه نفر من املسلمني، وأصيب حنو العشرة من اليهود، وافتتحه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم.‬
                                                                                                                                                                                                              ‫فتح قلعة أيب‬
‫وبعد فتح قلعة الزبري انتقل اليهود إىل قلعة أيب وحتصنوا فيه، وفرض املسلمون عليهم احلصار، وقام بطالن من اليهود واحد بعد اآلخر بطلب املبارزة، وقد قتلهما أبطال املسلمني، كان‬
       ‫و‬                                                                                                                                                                                  ‫‪‬‬
                                                                                                                                 ‫د ِ‬
‫الذي قتل املبارز الثاين هو البطل املشهور أبو ُجانة مسَاك بن خرشة األنصاري صاحب العصابة احلمراء. وقد ع أبو دجانة بعد قتله إىل اقتحام القلعة، واقتحم معه اجليش اإلسالمي،‬
                                                                      ‫أسر‬                                           ‫ََ َ‬              ‫َ‬
                                                                 ‫وجري قتال مرير ساعة داخل احلصن، مث تسلل اليهود من القلعة، وحتولوا إىل حصن النزار آخر حصن يف الشطر األول.‬
                                                                                                                                                                     ‫فتح حصن النَّزار‬
                                                                                                                                                                       ‫ـَ‬
     ‫كان هذا احلصن أمنع حصون هذا الشطر، كان اليهود على شبه اليقني بأن املسلمني ال يستطيعون اقتحام هذه القلعة، وإن بذلوا قصاري جهدهم يف هذا السبيل، ولذلك أقاموا يف‬
                                                                                                                                         ‫و‬
                                                                                                     ‫هذه القلعة مع الذراري والنساء، بينما كانوا قد أخلوا منها القالع األربعة السابقة.‬
   ‫وفرض املسلمون على هذا احلصن أشد احلصار، وصاروا يضغطون عليهم بعنف، ولكون احلصن يقع على جبل مرتفع منيع مل يكونوا جيدون سبيال لالقتحام فيه. أما اليهود فلم جيرتئوا‬
                                                               ‫للخروج من احلصن، ولالشتباك مع قوات املسلمني، ولكنهم قاوموا املسلمني مقاومة عنيدة برشق النبال، وبإلقاء احلجارة.‬
        ‫وعندما استعصى حصن النزار على قوات املسلمني، أمر النيب صلى اهلل عليه وسلم بنصب آالت املنجنيق، ويبدو أن املسلمني قذفوا به القذائف، فأوقعوا اخللل يف جدران احلصن،‬
 ‫واقتحموه، ودار قتال مرير يف داخل احلصن اهنزم أمامه اليهود هزْية منكرة، وذلك ألهنم مل يتمكنوا من التسلل من هذا احلصن كما تسللوا من احلصون األخري، بل فروا من هذا احلصن‬
                                                                                                                                                  ‫كني للمسلمني نساءهم وذراريهم.‬    ‫تار‬
‫وبعد فتح هذا احلصن املنيع مت فتح الشطر األول من خيرب، وهي ناحية النَّطَاة و َّق، كانت يف هذه الناحية حصون صغرية أخري إال أن اليهود مبجرد فتح هذا احلصن املنيع أخلوا هذه‬
                                                                                               ‫الش ِّ و‬
                                                                                                                                      ‫احلصون، وهربوا إىل الشطر الثاين من بلدة خيرب.‬
                                                                                                                                                           ‫فتح الشطر الثاين من خيرب‬
‫َطيح والسالمل، وجاءهم‬
               ‫ُّ‬      ‫وملا أمت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فتح ناحية النطاة والشق، حتول إىل أهل الكتيبة اليت هبا حصن القموص: حصن بين أيب احلقيق من بين النضري، وحصن الو ِ‬
                                                     ‫َُ ْ‬                      ‫َُ‬
                                                                                                                     ‫كل فَل كان اهنزم من النطاة والشق، وحتصن هؤالء أشد التحصن.‬  ‫ِّ‬
       ‫واختلف أهل املغازي هل جري هناك قتال يف أي حصن من حصوهنا الثالثة أم ال؟ فسياق ابن إسحاق صريح يف جريان القتال لفتح حصن القموص، بل يؤخذ من سياقه أن هذا‬
                                                                                                             ‫احلصن مت فتحه بالقتال فقط من غري أن جيري هناك مفاوضة لالستسالم.‬
    ‫أما الواقدي، ح متام التصريح أن قالع هذا الشطر الثالث إمنا أخذت بعد املفاوضة، وْيكن أن تكون املفاوضة قد جرت الستالم حصن القموص بعد إدارة القتال، وأما احلصنان‬    ‫فيصر‬
                                                                                                                                           ‫اآلخران فقد سلما إىل املسلمني دومنا قتال.‬
 ‫ومهما كان، فلما أيت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إىل هذه الناحية ـ الكتيبة ـ فرض على أهلها أشد احلصار، ودام احلصار أربعة عشر يوما، واليهود ال خيرجون من حصوهنم، حىت هم‬
 ‫ّ‬                                            ‫ً‬
                                                             ‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن ينصب عليهم املنجنيق، فلما أيقنوا باهللكة سألوا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الصلح.‬
                                                                                                                                                                               ‫املفاوضة‬
‫وأرسل ابن أيب احلُقْيق إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم: أنزل فأكلمك؟ قال: (نعم)، فنزل، وصاحل على حقن دماء من يف حصوهنم من املقاتلة، وترك‬
                                     ‫َْ‬                                                                                             ‫َ‬                   ‫‪‬‬
    ‫الذرية هلم، وخيرجون من خيرب وأرضها بذراريهم، وخيلون بني رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وبني ما كان هلم من مال وأرض، وعلى الصفراء والبيضاء ـ أي‬
    ‫الذهب والفضة ـ والكراع واحلَلقة إال ثوبًا على ظهر إنسان ، فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم: (وبرئت منكم ذمة اهلل وذمة رسوله إن كتمتموين شيئا)،‬
                                                                                                                        ‫َُ ْ َْ‬
                                                             ‫فصاحلوه على ذلك ، وبعد هذه املصاحلة مت تسليم احلصون إىل املسلمني، وبذلك مت فتح خيرب.‬
                                                                                                                       ‫قتل ابين أيب احلقيق لنقض العهد‬
         ‫وعلى رغم هذه املعاهدة غيب ابنا أيب احلقيق ماال كثريا، غيبا مسكا فيه مال وحلُي حليي بن أخطب، كان احتمله معه إىل خيرب حني أجليت النضري.‬
                                                                            ‫ُ‬           ‫ًَْ‬
                                                                                               ‫ِ‬
    ‫قال ابن إسحاق: وأيت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بكنَانة الربيع، كان عنده كنز بين النضري، فسأله عنه، فجحد أن يكون يعرف مكانه، فأيت رجل من‬
                                                                                    ‫و‬
   ‫اليهود فقال: إين رأيت كنانة يطيف هبذه اخلربة كل غداة، فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم لكنانة: (أرأيت إن وجدناه عندك أأقتلك؟) قال: نعم، فأمر‬
  ‫باخلربة، فحفرت، ج منها بعض كنزهم، مث سأله عما بقي، فأيب أن يؤديه. فدفعه إىل الزبري، وقال: عذبه حىت نستأصل ما عنده، فكان الزبري يقدح بزند‬
                                                                                                                               ‫فأخر‬
       ‫يف صدره حىت أشرف على نفسه، مث دفعه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إىل حممد بن مسلمة، فضرب عنقه مبحمود بن مسلمة ـ كان حممود قتل حتت‬
                           ‫و‬
                                                                                      ‫جدار حصن ناعم، ألقي عليه الرحي، وهو يستظل باجلدار فمات ـ.‬
                        ‫وذكر ابن القيم أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أمر بقتل ابين أيب احلقيق، كان الذي اعرتف عليهما بإخفاء املال هو ابن عم كنانة.‬
                                                                              ‫و‬
                    ‫وسيب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم صفية بنت حيي بن أخطب، كانت حتت كنانة بن أيب احلقيق، كانت عروسا حديثة عهد بالدخول.‬
                                          ‫ً‬          ‫و‬                               ‫و‬
                                                                                                                                         ‫قسمة الغنائم‬
   ‫وأراد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن جيلي اليهود من خيرب، فقالوا: يا حممد، دعنا نكون يف هذه األرض، نصلحها، ونقوم عليها، فنحن أعلم هبا منكم،‬
 ‫ومل يكن لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وال ألصحابه غلمان يقومون عليها، كانوا ال يفرغون حىت يقوموا عليها، فأعطاهم خيرب على أن هلم الشطر من كل‬
                                                                              ‫و‬
                                                  ‫ع، ومن كل مثر، ما بدا لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن يقرهم، كان عبد اهلل بن رواحة خيرصه عليهم.‬
                                                                                   ‫و‬                                                               ‫زر‬
   ‫وقسم أرض خيرب على ستة وثالثني سهما، مجع كل سهم مائة سهم، فكانت ثالثة آالف وستمائة سهم، فكان لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم واملسلمني‬
                                                                                                               ‫ً‬
‫النصف من ذلك وهو ألف ومثامنائة سهم، لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم سهم كسهم أحد املسلمني، وعزل النصف اآلخر، وهو ألف ومثامنائة سهم، لنوائبه‬
          ‫وما يتنزل به من أمور املسلمني، وإمنا قسمت على ألف ومثامنائة سهم ألهنا كانت طعمة من اهلل ألهل احلديبية من شهد منهم ومن غاب، كانوا ألفا‬
                   ‫و‬
                     ‫وأربعمائة، كان معهم مائتا فرس، لكل فرس سهمان، فقسمت على ألف ومثامنائة سهم، فصار للفارس ثالثة أسهم، وللراجل سهم واحد.‬ ‫و‬
‫ويدل على كثرة مغاِن خيرب ما رواه البخاري عن ابن عمر قال: ما شبعنا حىت فتحنا خيرب، وما رواه عن عائشة قالت:‬               ‫‪‬‬
       ‫ملا فتحت خيرب قلنا: اآلن نشبع من التمر ، وملا رجع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إىل املدينة رد املهاجرون إىل‬
                                  ‫األنصار منائحهم اليت كانوا منحوهم إياها من النخيل حني صار هلم خبيرب مال وخنيل.‬
                                                                                 ‫قدوم جعفر بن أيب طالب واألشعريني‬
              ‫ويف هذه الغزوة قدم عليه ابن عمه جعفر بن أيب طالب وأصحابه، ومعهم األشعريون أبو موسى وأصحابه.‬
    ‫قال أبو موسي: بلغنا ج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وحنن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه ـ أنا وأخوان يل ـ يف‬
                                                                                             ‫خمر‬
       ‫بضع ومخسني رجالً من قومي، كبنا سفينة، فألقتنا سفينتنا إىل النجاشي باحلبشة، فوافقنا جعفرا وأصحابه عنده،‬
                        ‫ً‬                                                            ‫ر‬
  ‫فقال: إن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بعثنا وأمرنا باإلقامة، فأقيموا معنا، فأقمنا معه حىت قدمنا فوافقنا رسول اهلل‬
      ‫صلى اهلل عليه وسلم حني فتح خيرب، فأسهم لنا، وما قسم ألحد غاب عن فتح خيرب شيئا إال ملن شهد معه، إال‬
                                                                ‫ألصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه، قسم هلم معهم.‬
 ‫وملا قدم جعفر على النيب صلى اهلل عليه وسلم تلقاه وقَـبَّل ما بني عينيه وقال: (واهلل ما أدري بأيهما ح؟ بفتح خيرب‬
                 ‫أفر‬                                          ‫َ‬
                                                                                                    ‫أم بقدوم جعفر).‬
   ‫كان قدوم هؤالء على أثر بعث الرسول صلى اهلل عليه وسلم إىل النجاشي عمرو بن أمية الضمري يطلب توجيههم‬              ‫و‬
‫إليه، فأرسلهم النجاشي على كبني، كانوا ستة عشر رجالً، معهم من بقي من نسائهم وأوالدهم، وبقيتهم جاءوا إىل‬
                                                                               ‫مر و‬
                                                                                                     ‫املدينة قبل ذلك.‬
‫ِ‬
   ‫وهذه كة أكرب لقاء مثْخن، وأعظم حرب دامية خاضها املسلمون يف حياة رسول اهلل‬‫املعر‬
                                                               ‫ُ‬                        ‫‪‬‬
 ‫صلى اهلل عليه وسلم، وهي مقدمة ومتهيد لفتوح بلدان النصاري، وقعت يف مجادي األويل‬
                                     ‫سنة 8 هـ، وفق أغسطس أو سبتمرب سنة 629 م.‬
    ‫ومؤتة (بالضم فالسكون) هي قرية بأدين بلقاء الشام، بينها وبني بيت املقدس مرحلتان.‬
                                                                           ‫سبب كة‬
                                                                            ‫املعر‬
       ‫وسبب هذه كة أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بعث احلارث بن عمري األزدي‬
                                                                     ‫املعر‬
  ‫بكتابه إىل عظيم بُصري. فعرض له شرحبِيل بن عمرو الغساين ـ كان عامالً على البلقاء‬
                        ‫و‬                       ‫َُ ْ‬             ‫َْ‬
                     ‫من أرض الشام من قبل قيصر ـ فأوثقه رباطاً، مث قدمه، فضرب عنقه.‬
      ‫كان قتل السفراء والرسل من أشنع اجلرائم، يساوي بل يزيد على إعالن حالة احلرب،‬  ‫و‬
    ‫فاشتد ذلك على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حني نقلت إليه األخبار، فجهز إليهم‬
‫جيشاً قوامه ثالثة آالف مقاتل ، وهو أكرب جيش إسالمي مل جيتمع قبل ذلك إال يف غزوة‬
                                                                             ‫األحزاب.‬
‫أمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على هذا البعث زيد بن حارثة، وقال: (إن قتل زيد‬              ‫‪‬‬
    ‫فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد اهلل بن رواحة) ، وعقد هلم لواء أبيض، ودفعه إىل زيد بن‬
                                                                                      ‫حارثة.‬
‫وحترك اجليش اإلسالمي يف اجتاه الشمال حىت نزل معان، من أرض الشام، مما يلي احلجاز‬
                                        ‫ََ‬
‫الشمإىل، وحينئذ نقلت إليهم االستخبارات بأن هرقل نازل مبآب من أرض البلقاء يف مائة‬
               ‫ألف من الروم، وانضم إليهم من خلْم وجذام وبَـ ْلقني وبـَهراء وبَلِي مائة ألف.‬
                                  ‫َْ َْ‬               ‫َ َُ‬
   ‫وقد قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يوم مؤتة ـ خمرباً بالوحي، قبل أن يأيت إىل الناس‬
     ‫اخلرب من ساحة القتال: (أخذ الراية زيد فأصيب، مث أخذ جعفر فأصيب، مث أخذ ابن‬
      ‫رواحة فأصيب ـ وعيناه تذرفان ـ حىت أخذ الراية سيف من سيوف اهلل، حىت فتح اهلل‬
                                                                                     ‫عليهم).‬
‫ويظهر بعد النظر يف مجيع الروايات أن خالد بن الوليد جنح يف الصمود أمام جيش الرومان‬              ‫‪‬‬
    ‫طول النهار، يف أول يوم من القتال. كان يشعر مبسيس احلاجة إىل مكيدة حربية تلقي‬
                                                    ‫و‬
‫الرعب يف قلوب الرومان حىت ينجح يف االحنياز باملسلمني من غري أن يقوم الرومان كات‬
    ‫حبر‬
‫املطاردة. فقد كـان يعرف جيداً أن اإلفالت من براثنهم صعب جداً لو انكشف املسلمون،‬
                                                                     ‫وقام الرومان باملطاردة.‬
‫فلما أصبح اليوم الثاين غري أوضاع اجليش، وعبأه من جديد، فجعل مقدمته ساقه، وميمنته‬
     ‫ميسرة، وعلى العكس، فلما رآهم األعداء أنكروا حاهلم، وقالوا: جاءهم مدد، فرعبوا،‬
    ‫وصار خالد ـ بعد أن تراءي اجليشان، وتناوشا ساعة ـ يتأخر باملسلمني قليالً قليالً، مع‬
   ‫حفظ نظام جيشه، ومل يتبعهم الرومان ظناً منهم أن املسلمني خيدعوهنم، وحياولون القيام‬
                                                              ‫مبكيدة ترمي هبم يف الصحراء.‬
      ‫وهكذا احناز العدو إىل بالده، ومل يفكر يف القيام مبطاردة املسلمني وجنح املسلمون يف‬
                                                    ‫االحنياز ساملني، حىت عادوا إىل املدينة.‬
‫واستشهد يومئذ من املسلمني اثنا عشر رجالً، أما الرومان، فلم يعرف عدد قتالهم، غري‬         ‫‪‬‬
                                                         ‫أن تفصيل كة يدل على كثرهتم.‬
                                                                          ‫املعر‬
                                                                                 ‫أثر كة‬
                                                                                  ‫املعر‬
‫وهذه كة وإن مل حيصل املسلمون هبا على الثأر، الذي عانوا مرارهتا ألجله، لكنها كانت‬‫املعر‬
‫كبرية األثر لسمعة املسلمني، إهنا ألقت العرب كلها يف الدهشة واحلرية، فقد كانت الرومان‬
 ‫أكرب وأعظم قوة على وجه األرض، كانت العرب تظن أن معين جالدها هو القضاء على‬
                                                       ‫و‬
   ‫النفس وطلب احلتف بالظِّْلف، فكان لقاء هذا اجليش الصغري ـ ثالثة آالف مقاتل ـ مع‬
    ‫ذلك اجليش الضخم العرمرم الكبري ـ مائتا ألف مقاتل ـ مث الرجوع عن الغزو من غري أن‬
    ‫تلحق به خسارة تذكر. كان كل ذلك من عجائب الدهر، كان كد أن املسلمني من‬
                            ‫و يؤ‬
‫طراز آخر غري ما ألفته العرب وعرفته، وأهنم مؤيدون ومنصورون من عند اهلل، وأن صاحبهم‬
‫رسول اهلل حقاً. ولذلك نري القبائل اللدودة اليت كانت ال تزال تثور على املسلمني جنحت‬
 ‫بعد هذه كة إىل اإلسالم، فأسلمت بنو سلَْيم وأشجع وغطَفان وذُبْـيَان وفَـزارة وغريها.‬
          ‫ََ‬                   ‫َْ َ َ‬           ‫ُ‬                          ‫املعر‬
‫الفتح األعظم الذي أعز اهلل به دينه ورسوله وجنده وحزبه األمـني، واستنقذ به بلــده وبيته الذي جعله هدي للعاملني، من أيدي‬          ‫‪‬‬
                                                   ‫ِ ِّ‬
  ‫الكفار و كني، وهو الفتح الذي استبشر بـه أهـل السمـاء، وضـربت أطناب عزه على مناكب اجلوزاء، ودخل الناس به فــي ديــن‬  ‫املشر‬
                                                                          ‫اهلل أفواجـاً، وأشرق به وجه األرض ضياء وابتهاجاً ا. هـ.‬
                                                                                                                        ‫سبب الغزوة‬
‫قدمنا يف وقعة احلديبية أن بنداً من بنود هذه املعاهدة يفيد أن من أحب أن يدخل يف عقد حممد صلى اهلل عليه وسلم وعهده دخل‬
   ‫فيه، ومن أحب أن يدخل يف عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وأن القبيلة اليت تنضم إىل أي الفريقني تعترب جزءاً من ذلك الفريق،‬
                                                         ‫فأي عدوان تتعرض له أي من تلك القبائل يعترب عدواناً على ذلك الفريق.‬
       ‫وحسب هذا البند دخلت خزاعة يف عهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم، ودخلت بنو بكر يف عهد قريش، وصارت كل من‬
                                                                                                      ‫َُ َ‬
   ‫القبيلتني يف أمن من األخري، وقد كانت بني القبيلتني عداوة وتوترات يف اجلاهلية، فلما جاء اإلسالم، ووقعت هذه اهلدنة، وأمن‬
  ‫كل فريق من اآلخر ـ اغتنمها بنو بكر، وأرادوا أن يصيبوا من خزاعة الثأر القدمي، ج نـَوفَل بن معاوية ِّيلي يف مجاعة من بين‬
                         ‫الد‬              ‫فخرِ ْ‬
  ‫بكر يف شهر شعبان سنة 8 هـ، فأغاروا على خزاعة ليالً، وهم على ماء يقال له: [الوتري] فأصابوا منهم رجاالً، وتناوشوا واقتتلوا،‬
                                               ‫َ‬
 ‫وأعانت قريش بين بكر بالسالح، وقاتل معهم رجال من قريش مستغلني ظلمة الليل، حىت حازوا خزاعة إىل احلرم، فلما انتهوا إليه‬
 ‫قالت بنو بكر: يا نوفل، إنا قد دخلنا احلرم، إهلك إهلك، فقال كلمة عظيمة: ال إله اليوم يا بين بكر، أصيبوا كم. فلعمري إنكم‬
                    ‫ثأر‬
                                                                                                                               ‫ِ‬
                                                                                         ‫لتَسرقُون يف احلرم، أفال تصيبون كم فيه؟‬
                                                                                                  ‫ثأر‬
                                     ‫وملا دخلت خزاعة مكة جلأوا إىل دار بُديْل بن ورقَاء اخلزاعي، وإىل دار مويل هلم يقال له: رافع.‬
                                                                                   ‫َْ‬       ‫َ‬
  ‫و ع عمرو بن سامل اخلزاعي، ج حىت قدم على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم املدينة، فوقف عليه، وهو جالس يف املسجد‬
                                                                                                ‫فخر‬                            ‫أسر‬
                                                                                                             ‫بني ظهراين الناس فقال:‬
‫فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم: (نصرت يا عمرو بن سامل)، مث عرضت له سحابة من السماء،‬             ‫‪‬‬
                                                      ‫فقال: (إن هذه السحابة لتستهل بنصر بين كعب).‬
‫مث ج بُديْل بن ورقَاء اخلزاعي يف نفر من خزاعة، حىت قدموا على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم املدينة،‬
                                                          ‫َُ َ‬                      ‫َْ‬      ‫خر َ‬
                             ‫فأخربوه مبن أصيب منهم، ومبظاهرة قريش بين بكر عليهم، مث رجعوا إىل مكة.‬
 ‫يؤخذ من رواية الطرباين أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أمر عائشة ـ قبل أن يأيت إليه خرب نقض امليثاق‬      ‫‪‬‬
  ‫بثالثة أيام ـ أن جتهزه، وال يعلم أحد، فدخل عليها أبو بكر، فقال: يابنية، ما هذا اجلهاز؟ قالت: واهلل ما‬
  ‫أدري. فقال: واهلل ما هذا زمان غزو بين األصفر، فأين يريد رسول اهلل؟ قالت: واهلل ال علم يل، ويف صباح‬
‫الثالثة جاء عمرو بن سامل اخلزاعي يف أربعني راكباً، وارجتز: يا رب إين ناشد حممداً... األبيات. فعلم الناس‬
 ‫بنقض امليثاق، وبعد عمرو جاء بديل، مث أبو سفيان، وتأكد عند الناس اخلرب، فأمرهم رسول اهلل صلى اهلل‬
 ‫عليه وسلم باجلهاز، وأعلمهم أنه سائر إىل مكة، وقال: (اللّهم خذ العيون واألخبار عن قريش حىت نبغتها‬
                                                                                           ‫يف بالدها).‬
   ‫وزيادة يف اإلخفاء والتعمية بعث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم سرية قوامها مثانية رجال، حتت قيادة أيب‬
  ‫قتادة بن ربْعِي، إىل بطن إضم، فيما بني ذي خشب وذي املروة، على ثالثة بـُرد من املدينة، يف أول شهر‬
                            ‫ُ‬                           ‫ََ‬                   ‫َ‬              ‫ِ‬
‫رمضان سنة 8 هـ ؛ ليظن الظان أنه صلى اهلل عليه وسلم يتوجه إىل تلك الناحية، ولتذهب بذلك األخبار،‬
  ‫وواصلت هذه السرية سريها، حىت إذا وصلت حيثما أمرت بلغها أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ج‬
    ‫خر‬
                                                                       ‫إىل مكة، فسارت إليه حىت حلقته.‬
‫كتب حاطب بن أيب بَـلتَـعة إىل قريش كتاباً خيربهم مبسري رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إليهم، مث أعطاه‬
                                                                                            ‫َْ‬                   ‫و‬   ‫‪‬‬
    ‫امرأة، وجعل هلا جعالً على أن تبلغه قريشاً، فجعلته يف قرون رأسها، مث خرجت به، وأيت رسول اهلل صلى‬‫ُْ‬
     ‫وي‬‫اهلل عليه وسلم اخلرب من السماء مبا صنع حاطب، فبعث علياً واملقداد والزبري بن العوام وأبا م ْرثَد الغَنَ ِ‬
                      ‫َ‬
   ‫فقال: (انطلقوا حىت تأتوا روضةَ خاخ، فإن هبا ظعينة معها كتاب إىل قريش)، فانطلقوا تعادي هبم خيلهم‬
                                                                                   ‫َْ َ َ‬
‫حىت وجدوا املرأة بذلك املكان، فاستنـزلوها، وقالوا: معك كتاب؟ فقالت: ما معي كتاب، ففتشوا رحلها فلم‬
  ‫جيدوا شيئاً. فقال هلا علي: أحلف باهلل، ما كذب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وال كذبنا، واهلل لتخرجن‬
       ‫الكتاب أو لنجردنك. فلما رأت اجلد منه قالت: أعرض، فأعرض، فحلت قرون رأسها، فاستخرجت‬
   ‫الكتاب منها، فدفعته إليهم، فأتوا به رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم، فإذا فيه: (من حاطب بن أيب بلتعة‬
     ‫إىل قريش) خيربهم مبسري رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم، فدعا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حاطباً،‬
‫فقال: (ما هذا يا حطب؟) فقال: ال تَـعجل على يا رسول اهلل. واهلل إين ملؤمن باهلل ورسوله، وما ارتددت وال‬
                                                                              ‫ْ‬
     ‫َ سهم، ويل فيهم أهل وعشرية وولد، وليس يل‬               ‫بدلت، ولكين كنت امرأ ملْصقـا يف قريشَ؛ْ لست من أنْـف ِ‬
                                                                                       ‫ُ ًَ‬
  ‫فيهم قرابة حيموهنم، كان من معك له قرابات حيموهنم، فأحببت إذ فاتين ذلك أن أختذ عندهم يداً حيمون‬‫و‬
    ‫هبا قرابيت. فقال عمر بن اخلطاب: دعين يا رسول اهلل أضرب عنقه، فإنه قد خان اهلل ورسوله، وقد نافق،‬
    ‫فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم: (إنه قد شهد بدراً، وما يدريك يا عمر لعل اهلل قد اطلع على أهل‬
                         ‫بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، فذرفَت عينا عمر، وقال: اهلل ورسوله أعلم.‬
                                                                    ‫ََ ْ‬
‫وهكذا أخذ اهلل العيون، فلم يبلغ إىل قريش أي خرب من أخبار جتهز املسلمني وهتيئهم للزحف والقتال.‬                           ‫‪‬‬
                                                                                                ‫اجليش اإلسالمي يتحرك حنو مكة‬
  ‫ولعشر خلون من شهر رمضان املبارك 8 هـ، غادر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم املدينة متجهاً إىل مكــة،‬
                                ‫يف عشرة أالف من الصحابة رضي اهلل عنهم، واستخـلف على املدينة أبا رهم الغفاري.‬
                                              ‫ُْ‬
        ‫وملا كان باجلُحفة ـ أو فوق ذلك ـ لقيه عمه العباس بن عبد املطلب، كان قد ج بأهله وعياله مسلما‬
        ‫ً‬                              ‫خر‬              ‫و‬                                                         ‫َْ‬
  ‫مهاجراً، مث ملا كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم باألبواء لقيه ابن عمه أبو سفيان ابن احلارث وابن عمته‬
   ‫عبد اهلل بن أيب أمية، فأعرض عنهما، ملا كان يلقاه منهما من شدة األذي واهلجو، فقالت له أم سلمة: ال‬
‫يكن ابن عمك وابن عمتك أشقي الناس بك. وقال على أليب سفيان بن احلارث: ائت رسول اهلل صلى اهلل‬
                                 ‫ِ َ ْ ََ‬
    ‫عليه وسلم من قبل وجهه، فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: {قَالُواْ تَاللّه لَقد آثـَرك اللّهُ علَْيـنَا وإِن كنَّا‬
        ‫َ َ ُ‬
    ‫خلَاطئِني} [يوسف:19]، فإنه ال يرضي أن يكون أحد أحسن منه قوالً. ففعل ذلك أبو سفيان، فقال له‬                          ‫َ َ‬
                                                                                                                           ‫ِ‬
                                                             ‫ِ‬
                               ‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم: {قَال الَ تَـثْـريب علَيْكم الْيَـوم يَـغفر اللّهُ لَكم وهو أَرحم‬
                                ‫ُ ْ َ َُ ْ َ ُ‬              ‫َ َ َ ُ ُ َْ ْ ُ‬               ‫َ‬
                                                                                                                           ‫ِِ‬
                                                                       ‫الرامحني} [يوسف:29]، فأنشده أبو سفيان أبياتاً منها:‬
                                                                                                                        ‫َّ َ‬
                                                              ‫َ َّ ْ ِ‬
                                        ‫فضرب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم صدره وقال: (أنت طَردتَين كل مطَرد؟).‬
                                               ‫ُ َّ‬
‫اجليش اإلسالمي ينزل مبَر الظَّهران‬
                                                                                      ‫ِّ ْ َ‬                             ‫‪‬‬
‫وواصل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم سريه وهو صائم، والناس صيام، حىت بلغ الكديْد ـ وهو ماء بني عسفان وقُديْد‬
   ‫َ‬         ‫ُ َْ‬               ‫َُ‬
       ‫ـ فأفطر، وأفطر الناس معه. مث واصل سريه حىت نزل مبر الظهران ـ وادي فاطمة ـ نزله عشاء، فأمر اجليش، فأوقدوا‬
 ‫النريان، فأوقدت عشرة آالف نار، وجعل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على احلرس عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه‬
                                                                   ‫أبو سفيان بني يدي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫كب العباس ـ بعد نزول املسلمني مبر الظهران ـ بغلة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم البيضاء، ج يلتمس، لعله جيد‬
                      ‫وخر‬                                                                                          ‫ور‬
                   ‫بعض احلَطَّابة أو أحداً خيرب قريشاً ليخرجوا يستأمنون رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قبل أن يدخلها.‬
                                   ‫خير‬                ‫و‬           ‫َ ٍَ‬
      ‫كان اهلل قد عمي األخبار عن قريش، فهم على وجل وترقب، كان أبو سفيان ج يتجسس األخبار، فكان قد‬                    ‫و‬
                                                      ‫ج هو وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء يتجسسون األخبار.‬         ‫خر‬
   ‫قال العباس: واهلل إين ألسري عليها ـ أي على بغلة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ـ إذ مسعت كالم أيب سفيان وبديل‬
         ‫بن ورقاء، ومها يرتاجعان، وأبو سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نرياناً قط وال عسكراً. قال: يقول بديل: هذه واهلل‬
                       ‫خزاعة، محَشْتها احلرب، فيقول أبو سفيان: خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نرياهنا وعسكرها.‬
                                                                                                           ‫َ َ‬
   ‫قال العباس: فعرفت صوته، فقلت: أبا حْنظَلَة؟ فعرف صويت، فقال: أبا الفضل؟ قلت: نعم. قال: مالك؟ فداك أيب‬
                                                                            ‫َ‬
                                       ‫وأمي. قلت: هذا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف الناس، واصباح قريش واهلل.‬
 ‫قال: فما احليلة فداك أيب وأمي؟، قلت: واهلل لئن ظفر بك ليضربن عنقك، كب يف عجز هذه البغلة، حىت آيت بك‬
                                        ‫فار‬
                                            ‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فأستأمنه لك، كب خلفي، ورجع صاحباه.‬
                                                                       ‫فر‬
‫قال: فجئت به، فكلما مررت به على نار من نريان املسلمني، قالوا: من هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول اهلل صلى اهلل عليه‬      ‫‪‬‬
   ‫وسلم وأنا عليها قالوا: عم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على بغلته. حىت مررت بنار عمر بن اخلطاب فقال: من‬
    ‫هذا؟ وقام إىل، فلما رأي أبا سفيان على عجز الدابة قال: أبو سفيان، عدو اهلل؟ احلمد هلل الذي أمكن منك بغري‬
     ‫عقد وال عهد، مث ج يشتد حنو رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم، كضت البغلة فسبقت، فاقتحمت عن البغلة،‬
                                           ‫ور ُ‬                                             ‫خر‬
  ‫فدخلت على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم، ودخل عليه عمر، فقال: يا رسول اهلل، هذا أبو سفيان فدعين أضرب‬
‫عنقه، قال: قلت: يا رسول اهلل، إين قد أجرته، مث جلست إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فأخذت برأسه، فقلت:‬
   ‫واهلل ال يناجيه الليلة أحد دوين، فلما أكثر عمر يف شأنه قلت: مهالً يا عمر، فواهلل لو كان من رجال بين عدي بن‬
  ‫كعب ما قلت مثل هذا، قال: مهالً يا عباس، فواهلل إلسالمك كان أحب إىل من إسالم اخلطاب، لو أسلم، وما يب‬
                      ‫إال أين قد عرفت أن إسالمك كان أحب إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من إسالم اخلطاب.‬
         ‫فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم: (اذهب به يا عباس إىل رحلك، فإذا أصبحت فأتين به)، فذهبت، فلما‬
 ‫أصبحت غدوت به إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم، فلما رآه قال: (وحيك يا أبا سفيان، أمل يأن لك أن تعلم أن‬
‫ال إله إال اهلل؟) قال: بأيب أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك؟ لقد ظننت أن لو كان مع اهلل إله غريه لقد أغين‬
                                                                                                  ‫عين شيئاً بعد.‬
          ‫قال: (وحيك يا أبا سفيان، أمل يأن لك أن تعلم أين رسول اهلل؟)، قال: بأيب أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك‬
 ‫وأوصلك: أما هذه فإن يف النفس حىت اآلن منها شيء. فقال له العباس: وحيك أسلم، واشهد أن ال إله إال اهلل، وأن‬
                                               ‫حممداً رسول اهلل، قبل أن تضرب عنقك، فأسلم وشهد شهادة احلق.‬
‫قال العباس: يا رسول اهلل، إن أبا سفيان رجل حيب الفخر فاجعل له شيئاً. قال: (نعم، من دخل دار أيب سفيان فهو‬                 ‫‪‬‬
                                                 ‫آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل املسجد احلرام فهو آمن).‬
                                                                              ‫اجليش اإلسالمي يغادر مر الظهران إىل مكة‬
  ‫ويف هذا الصباح ـ صباح يوم الثالثاء للسابع عشر من شهر رمضان سنة 8 هـ ـ غادر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
                                          ‫َ ِ‬
  ‫مر الظهران إىل مكة، وأمر العباس أن حيبس أبا سفيان مبضيق الوادي عند خطْم اجلبل، حىت متر به جنود اهلل فرياها،‬
      ‫ففعل، فمرت القبائل على راياهتا، كلما مرت به قبيلة قال: يا عباس، من هذه؟ فيقول ـ مثال ـ سليم، فيقول: مإىل‬
‫ولِسلَْيم؟ مث متر به القبيلة فيقول: يا عباس، من هؤالء؟ فيقول: مزيْـنَة، فيقول: ما يل وملزينة؟ حىت نفذت القبائل، ما متر‬
                                                          ‫َُ‬                                                      ‫ُ‬
 ‫به قبيلة إال سأل العباس عنها، فإذا أخربه قال: مايل ولبين فالن؟ حىت مر به رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف كتيبته‬
‫اخلضراء، فيها املهاجرون واألنصار، ال يري منهم إال احلَدق من احلديد، قال: سبحان اهلل! يا عباس، من هؤالء؟ قال:‬
                                                                   ‫َ‬
    ‫هذا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف املهاجرين واألنصار، قال: ما ألحد هبؤالء قِبَل وال طاقة. مث قال: واهلل يا أبا‬
                                     ‫ٌ‬
                 ‫الفضل، لقد أصبح م ْلك ابن أخيك اليوم عظيماً. قال العباس: يا أبا سفيان، إهنا النبوة، قال: فنعم إذن.‬
                                                                                                  ‫ُ ُ‬
    ‫كانت راية األنصار مع سعد بن عبادة، فلما مر بأيب سفيان قال له: اليوم يوم امللحمة، اليوم تُستَحل احلُْرمة، اليـوم‬
              ‫ْ َ ُّ َ‬                                                                                               ‫و‬
    ‫أذل اهلل قـريشاً. فلما حـاذي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أبا سفيان قال: يا رسول اهلل، أمل تسمع ما قال سعد؟‬
     ‫قال: (وما قال؟) فقال: قال كذا كذا. فقال عثمان وعبد الرمحن بن عوف: يا رسول اهلل، ما نأمن أن يكون له يف‬
                                                                                        ‫و‬
   ‫قريش صولة، فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم: (بل اليوم يوم تـُعظَّم فيه الكعبة، اليوم يوم أعز اهلل فيه قريشاً) مث‬
                                                       ‫َ‬
       ‫أرسل إىل سعد ع منه اللواء، ودفعه إىل ابنه قيس، ورأي أن اللواء مل ج عن سعد. وقيل: بل دفعه إىل الزبري.‬
                                                ‫خير‬                                                   ‫فنز‬
‫قريش تباغت زحف اجليش اإلسالمي‬                   ‫‪‬‬
 ‫وملا مر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بأيب سفيان ومضي قال له العباس: النجاء إىل قومك. ع أبو سفيان حىت‬
                   ‫فأسر‬
     ‫دخل مكة، خ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا حممد، قد جاءكم فيما ال قبل لكم به. فمن دخل دار أيب‬      ‫وصر‬
 ‫َميت الدسم األمخش الساقني،‬ ‫سفيان فهو آمن. فقامت إليه زوجته هند بنت عتبة فأخذت بشاربه فقالت: اقتلوا احل ِ‬
                                                                                                    ‫قُـبِّح من طَلِيعة قوم.‬
                                                                                                          ‫َ‬          ‫َ‬
  ‫قال أبو سفيان: ويلكم، التغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم مبا ال قبل لكم به، فمن دخل دار أيب سفيان‬
   ‫فهو آمن. قالوا: قاتلك اهلل، وما تغين عنا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل املسجد فهو آمن.‬
 ‫فتفرق الناس إىل دورهم وإىل املسجد، ووبشوا أوباشاً هلم، وقالوا: نقدم هؤالء، فإن كان لقريش شيء كنا معهم، وإن‬
                                                           ‫ِف‬
    ‫أصيبوا أعطينا الذي سئلنا. فتجمع سفهاء قريش وأخ َّاؤها مع عكرمة بن أيب جهل، وصفوان بن أمية، وسهيل بن‬
                                                  ‫ِ‬
 ‫عمرو باخلَْندمة ليقاتلوا املسلمني. كان فيهم رجل من بين بكر ـ محَاس بن قيس ـ كان يعد قبل ذلك سالحاً، فقالت‬
                                                                                 ‫و‬                        ‫ََ‬
‫له امرأته: ملاذا تعد ما أري؟ قال: حملمد وأصحابه. قالت: واهلل ما يقوم حملمد وأصحابه شيء. قال: إين واهلل ألرجو أن‬
                                                                                          ‫أخدمك بعضهم، مث قال:‬
                                                                                               ‫ِ‬
                                                             ‫إن يقبلوا اليوم فمايل علَّه ** هــذا ســالح كامــل وألَّه‬
                                                                                                                   ‫ِ‬
                                                                                         ‫وذو غراريْن سريع السلَّة **‬
                                                                                                 ‫َّ‬             ‫ََ‬
                                                                        ‫فكان هذا الرجل فيمن اجتمعوا يف اخلندمة.‬
‫اجليش اإلسالمي بذي طُوى‬
                                                                                              ‫َ‬                             ‫‪‬‬
 ‫أما رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فمضي حىت انتهي إىل ذي طوي ـ كان يضع رأسه تواضعاً هلل حني رأي ما أكرمه‬
                                                ‫و‬
 ‫ِ‬
 ‫اهلل به من الفتح، حىت أن شعر حليته ليكاد ْيس واسطة الرحل ـ وهناك ع جيشه، كان خالد بن الوليد على املجنَّبَة‬
                                  ‫و‬           ‫وز‬
       ‫َُ‬                                                                                  ‫ِ‬
              ‫اليمين ـ وفيها أسلَم وسلَْيم وغفار ومزيْـنَة وجهْيـنَة وقبائل من قبائل العرب ـ فأمره أن يدخل مكة من أسفلها،‬
                                                                          ‫َ َُ ُ َ‬                ‫ْ ُ ُ‬
                                 ‫وقال: (إن عرض لكم أحد من قريش فاحصدوهم حصداً، حىت توافوين على الصفا).‬
                                                                           ‫و‬             ‫ِ‬
      ‫كان الزبري بن العوام على املجنَّبَة اليسري، كان معه راية رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم، فأمره أن يدخل مكة من‬       ‫و‬
                                                                                           ‫َُ‬
                                                       ‫أعالها ـ من كداء ـ وأن يغرز رايته باحلَجون، وال يربح حىت يأتيه.‬
                                                                               ‫ُ‬                         ‫ََ‬
       ‫كان أبو عبيدة على الرجالة واحلُسر ـ وهم الذمي السالح معهم ـ فأمره أن يأخذ بطن الوادي حىت ينصب ملكة بني‬
                                                                                      ‫َّ‬                                ‫و‬
                                                                                   ‫يدي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم.‬
                                                                                            ‫اجليش اإلسالمي يدخل مكة‬
                                         ‫كت كل كتيبة من اجليش اإلسالمي على الطريق اليت كلفت الدخول منها.‬            ‫وحتر‬
          ‫ِْ‬ ‫فأما خالد وأصحابه فلم يلقهم أحد من كني إال أناموه. وقتل من أصحابه من املسلمني كرز بن جابر ِ‬
        ‫الفهري‬                                                           ‫املشر‬
                          ‫ُْ‬
 ‫وخنَـْيس بن خالد بن ربيعة. كانا قد شذا عن اجليش، فسلكا طريقاً غري طريقه فقتال مجيعاً، وأما سفهاء قريش فلقيهم‬         ‫ُ‬
       ‫ِ‬
‫خالد وأصحابه باخلَْندمة فناوشوهم شيئا من قتال، فأصابوا من كني اثين عشر رجالً، فاهنزم كون، واهنزم محَاس‬
                    ‫املشر‬                         ‫املشر‬                                           ‫ََ‬
                      ‫بن قيس ـ الذي كان يعد السالح لقتال املسلمني ـ حىت دخل بيته، فقال المرأته: أغلقي على بايب.‬
                                                                                     ‫فقالت: وأين ما كنت تقول؟ فقال:‬
‫وأقبل خالد جيوس مكة حىت واىف رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على الصفا.‬                    ‫‪‬‬
  ‫وأما الزبري فتقدم حىت نصب راية رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم باحلَجون عند مسجد الفتح، وضرب له هناك قبة، فلم يربح حىت‬
                                                   ‫ُ‬
                                                                                   ‫جاءه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم.‬
                                                            ‫الرسول صلى اهلل عليه وسلم يدخل املسجد احلرام ويطهره من األصنام‬
         ‫مث هنض رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم، واملهاجرون واألنصار بني يديه وخلفه وحوله، حىت دخل املسجد، فأقبل إىل احلجر‬
‫األسود، فاستلمه، مث طاف بالبيت، ويف يده قوس، وحول البيت ثالمثائة وستون صنما، فجعل يطعنها بالقوس، ويقول: {جاء احلَق‬
‫َ ْ ُّ‬
                                                        ‫ِ‬
‫وزهق الْبَاطل إِن الْبَاطل كان زهوقًا}[اإلسراء:18]، {قُل جاء احلَق وما يـُْبدئ الْبَاطل وما يُعِيد} [سبأ:94] واألصنام تتساقط على‬
                                    ‫ُ ِ ُ ََ ُ‬             ‫ْ َ ْ ُّ َ َ‬                          ‫َ َ َ َُ‬
                                                                                                          ‫ِ َّ ِ‬
                                                                                                                    ‫ُ‬       ‫ََ َ َ‬
                                                                                                                       ‫وجوهها.‬
  ‫كان طوافه على راحلته، مل يكن حمرماً يومئذ، فاقتصر على الطواف، فلما أكمله دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة،‬
                                                                                                      ‫و‬                          ‫و‬
             ‫فأمر هبا ففتحت فدخلها، فرأي فيها الصور، ورأي فيها صورة إبراهيم، وإمساعيل ـ عليهما السالم ـ يستقسمان باألزالم،‬
            ‫فقال: (قاتلهم اهلل، واهلل ما استقسما هبا قط). ورأي يف الكعبة محامة من عيدان، فكسرها بيده، وأمر بالصور فمحيت.‬
                                                               ‫الرسول صلى اهلل عليه وسلم يصلي يف الكعبة مث خيطب أمام قريش‬
         ‫مث أغلق عليه الباب، وعلى أسامة وبالل، فاستقبل اجلدار الذي يقابل الباب حىت إذا كان بينه وبينه ثالثة ع وقف، وجعل‬
                       ‫أذر‬
   ‫عمودين عن يساره، وعموداً عن ْيينه، وثالثة أعمدة وراءه ـ كان البيت يومئذ على ستة أعمدة ـ مث صلي هناك. مث دار يف البيت،‬
                                                                    ‫و‬
   ‫كرب يف نواحيه، ووحد اهلل، مث فتح الباب، وقريش قد مألت املسجد صفوفاً ينتظرون ماذا يصنع؟ فأخذ بعضاديت الباب وهم حتته،‬           ‫و‬
                                                                                                                           ‫فقال:‬
    ‫(ال إله إال اهلل وحده ال شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم األحزاب وحده، أال كل مأثـُرة أو مال أو دم فهو حتت قدمي‬
                                  ‫َ‬                                                                  ‫ِ‬            ‫َِ‬
    ‫هاتني، إال سدانَة البيت وسقاية احلاج، أالوقتيل اخلطأ شبه العمد ـ السوط والعصا ـ ففيه الدية مغلظة، مائة من اإلبل أربعون منها‬
                                                                                                                ‫يف بطوهنا أوالد.‬
‫يا معشر قريش إن اهلل قد أذهب عنكم خنوة اجلاهلية وتعظمها باآلباء، الناس من آدم، وآدم من تراب مث تال هذه اآلية: {يا أيها‬             ‫‪‬‬
                ‫الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند اهلل أتقاكم إن اهلل عليم خبري}.‬
                                                                                                            ‫ال تثريب عليكم اليوم‬
       ‫مث قال: (يا معشر قريش ما ترون أين فاعل بكم؟) قالوا: خريا، أخ كرمي وابن أخ كرمي، قال: (فإين أقول لكم كما قال يوسف‬
                                                                    ‫ً‬
                                                                             ‫إلخوته: {الَ تَـثْـريب علَْيكم} اذهبوا فأنتم الطلقاء).‬
                                                                                                     ‫َ َ َ ُُ‬
                                                                                                             ‫مفتاح البيت إىل أهله‬
 ‫مث جلس رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف املسجد فقام إليه علي رضي اهلل عنه ومفتاح الكعبة يف يده فقال: امجع لنا احلجابة مع‬
          ‫السقاية، صلى اهلل عليك ـ ويف رواية أن الذي قال ذلك هو العباس ـ فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم: (أين عثمان بن‬
 ‫طلحة؟). فدعي له، فقال له: (هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء)، ويف رواية ابن سعد يف الطبقات أنه قال له حني دفع‬
  ‫املفتاح إليه: (خذوها خالدة تالدة، ال ينزعها منكم إال ظامل، يا عثمان إن اهلل استأمنكم على بيته، فكلوا مما يصل إليكم من هذا‬
                                                                                                                ‫البيت باملعروف).‬
                                                                                                           ‫بالل يؤذن على الكعبة‬
‫وحانت الصالة، فأمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بالال أن يصعد فيؤذن على الكعبة، وأبو سفيان بن حرب، وعتاب بن أسيد،‬
‫واحلارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة، فقال عتاب: لقد أكرم اهلل أسيدا أال يكون مسع هذا، فيسمع منه ما يغيظه. فقال احلارث:‬
    ‫أما واهلل لو أعلم أنه حق التبعته. فقال أبو سفيان: أما واهلل ال أقول شيئًا، لو تكلمت ألخربت عين هذه احلصباء. ج عليهم‬
            ‫فخر‬
                                                  ‫النيب صلى اهلل عليه وسلم فقال هلم: (لقد علمت الذي قلتم) مث ذكر ذلك هلم.‬
                                ‫فقال احلارث وعتاب: نشهد أنك رسول اهلل، واهلل ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخربك.‬
‫خطبة الرسول صلى اهلل عليه وسلم الثاين من الفتح:‬       ‫‪‬‬
     ‫وملا كان الغد من يوم الفتح قام رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف الناس خطيباً، فحمد اهلل، وأثىن عليه،‬
‫وجمده مبا هو أهله، مث قال: (أيها الناس، إن اهلل حرم مكة يوم خلق السموات واألرض، فهي حرام حبرمة اهلل‬
 ‫إىل يوم القيامة، فال حيل المرئ يؤمن باهلل واليوم اآلخر أن يسفك فيها دماً، أو يعضد هبا شجرة، فإن أحد‬
‫ترخص لقتال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقولوا: إن اهلل أذن لرسولة ومل يأذن لكم، وإمنا حلت يل ساعة‬
                                ‫من هنار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها باألمس، فليبلغ الشاهد الغائب).‬
        ‫ويف رواية: (ال يعضد كه، وال ينفر صيده وال تلتقط ساقطته إال من عرفها، وال خيتلى خاله)، فقال‬
                                                                                  ‫شو‬
                                 ‫العباس: يا رسول اهلل، إال اإلذخر، فإنه لقينهم وبيوهتم، فقال: (إال اإلذخر).‬
   ‫كانت خزاعة قتلت يومئذ رجال من بىن ليث بقتيل هلم يف اجلاهلية، فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬        ‫و‬
  ‫هبذا الصدد: ( يا معشر خزاعة، ارفعو أيديكم عن القتل، فلقد كثر القتل إن نفع، ولقد قتلتم قتياال ألدينه،‬
                        ‫فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله خبري النظرين، إن شاءوا فدم قاتله، وإن شاءوا فعقله).‬
  ‫ويف رواية: فقام رجل من أهل اليمن يقال له: شاه فقال: اكتب يل يا رسول اهلل، فقال رسول اهلل صلى اهلل‬
                                                                             ‫عليه وسلم: (اكتبو أليب شاه).‬
‫كانت هناك قوة تعرضت للمسلمني من غري مربر، وهي قوة الرومان ـ أكرب قوة عسكرية ظهرت‬                   ‫‪‬‬
   ‫على وجه األرض يف ذلك الزمان ـ وقد عرفنا فيما تقدم أن بداية هذا التعرض كانت بقتل سفري‬
‫رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم ـ احلارث بن عمري األزدي ـ على يدي شرحبِيل بن عمرو الغساين،‬
                        ‫َُ ْ‬
   ‫حينما كان السفري حيمل رسالة النيب صلى اهلل عليه وسلم إىل عظيم بُصري، وأن النيب صلى اهلل‬
                           ‫َْ‬
 ‫عليه وسلم أرسل بعد ذلك سرية زيد بن حارثة اليت اصطدمت بالرومان اصطداماً عنيفاً يف مؤتة،‬
  ‫مل تنجح يف أخذ الثأر من أولئك الظاملني املتغطرسني، إال أهنا كت أروع أثر يف نفوس العرب،‬
                                    ‫تر‬                                                            ‫و‬
                                                                                    ‫قريبهم وبعيدهم.‬
     ‫مل يكن قيصر ليصرف نظره عما كان كة مؤتة من األثر الكبري لصاحل املسلمني، وعما كان‬
                                                            ‫ملعر‬                                  ‫و‬
    ‫يطمح إليه بعد ذلك كثري من قبائل العرب من استقالهلم عن قيصر، ومواطأهتم للمسلمني، إن‬
        ‫هذا كان خطراً يتقدم وخيطو إىل حدوده خطوة بعد خطوة، ويهدد الثغور الشامية اليت جتاور‬
    ‫العرب، فكان يري أن القضاء جيب على قوة املسلمني قبل أن تتجسد يف صورة خطر عظيم ال‬
              ‫ْيكن القضاء عليها، وقبل أن تثري القالقل والثورات يف املناطق العربية اجملاورة للرومان.‬
      ‫ونظراً إىل هذه املصاحل، مل يقض قيصر بعد كة مؤتة سنة كاملة حىت أخذ يهيئ اجليش مـن‬
                                                      ‫معر‬
                   ‫الرومـان والعرب التابعة هلم من آل غسان وغريهم، وبدأ جيهز كة دامية فاصلة.‬
                                    ‫ملعر‬
‫األخبار العامة عن استعداد الرومان وغسان‬
                                              ‫َ َّ‬                                      ‫‪‬‬
‫كانت األنباء ترتامي إىل املدينة بإعداد الرومان ؛ للقيام بغزوة حامسة ضد املسلمني، حىت‬‫و‬
          ‫كان اخلوف يتسورهم كل حني، ال يسمعون صوتاً غري معتاد إال ويظنونه زحف‬
 ‫الرومان.ويظهر ذلك جلياً مما وقع لعمر بن اخلطاب، فقد كان النيب صلى اهلل عليه وسلم‬
  ‫إىل من نسائه شهراً يف هذه السنة ـ 9هـ ـ كان هجرهن واعتزل عنهن يف مشربة له ، ومل‬
                                           ‫و‬
 ‫يفطن الصحابة إىل حقيقة األمر يف بدايته، فظنوا أن النيب صلى اهلل عليه وسلم طلقهن،‬
‫فسري فيهم اهلم واحلزن والقلق. يقول عمر بن اخلطاب ـ وهو يروي هذه القصة: كان يل‬
       ‫و‬
‫صاحب من األنصار إذا غبت أتاين باخلرب، وإذا غاب كنت آتية أنا باخلرب ـ كانا يسكنان‬
            ‫و‬
   ‫يف عواىل املدينة، يتناوبان إىل النيب صلى اهلل عليه وسلم ـ وحنن نتخوف ملكاً من ملوك‬
  ‫غسان ذكر لنا أنه يريد أن يسري إلينا، فقد امتألت صدورنا منه، فإذا صاحيب األنصاري‬
  ‫يدق الباب، فقال: افتح، افتح، فقلت: جاء الغساين؟ فقال: بل أشد من ذلك، اعتزل‬
                                   ‫رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم أزواجه... احلديث.‬
‫وهذا يدل على خطورة املوقف، الذي كان يواجهه املسلمون بالنسبة إىل الرومان، ويزيد‬         ‫‪‬‬
   ‫ذلك تأكداً ما فعله املنافقون حينما نقلت إىل املدينة أخبار إعداد الرومان، فربغم ما رآه‬
‫هؤالء املنافقون من جناح رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم يف كل امليادين، وأنه ال يوجل من‬
 ‫سلطان على ظهر األرض، بل يذيب كل ما يعرتض يف طريقه من عوائق ـ برغم هذا كله ـ‬
 ‫طفق هؤالء املنافقون يأملون يف حتقق ما كانوا خيفونه يف صدورهم، وما كانوا يرتبصونه من‬
     ‫الشر باإلسالم وأهله. ونظراً إىل قرب حتقق آماهلم أنشأوا كرة للدس والتآمر، يف صورة‬
                                 ‫و‬
     ‫مسجد، وهو مسجد الضرار، أسسوه كفراً وتفريقاً بني املؤمنني وإرصاداً ملن حارب اللّه‬
                                                                  ‫ِّ َ‬
  ‫ورسوله، وعرضوا على رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم أن يصلي فيه، وإمنا مرامهم بذلك‬
   ‫أن خيدعوا املؤمنني فال يفطنوا ما يؤيت به يف هذا املسجد من الدس واملؤامرة ضدهم، وال‬
   ‫يلتفتوا إىل من يرده ويصدر عنه، فيصري كرة مأمونة هلؤالء املنافقني ولرفقائهم يف ج،‬
      ‫اخلار‬                                           ‫و‬
         ‫ولكن رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم أخر الصالة فيه ـ إىل قفوله من الغزوة ـ لشغله‬
     ‫باجلهاز، ففشلوا يف مرامهم وفضحهم اللّه، حىت قام الرسول صلى اهلل عليه وسلم هبدم‬
                                            ‫املسجد بعد القفول من الغزو، بدل أن يصلي فيه‬
‫وهذا يدل على خطورة املوقف، الذي كان يواجهه املسلمون بالنسبة إىل الرومان، ويزيد‬         ‫‪‬‬
   ‫ذلك تأكداً ما فعله املنافقون حينما نقلت إىل املدينة أخبار إعداد الرومان، فربغم ما رآه‬
‫هؤالء املنافقون من جناح رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم يف كل امليادين، وأنه ال يوجل من‬
 ‫سلطان على ظهر األرض، بل يذيب كل ما يعرتض يف طريقه من عوائق ـ برغم هذا كله ـ‬
 ‫طفق هؤالء املنافقون يأملون يف حتقق ما كانوا خيفونه يف صدورهم، وما كانوا يرتبصونه من‬
     ‫الشر باإلسالم وأهله. ونظراً إىل قرب حتقق آماهلم أنشأوا كرة للدس والتآمر، يف صورة‬
                                 ‫و‬
     ‫مسجد، وهو مسجد الضرار، أسسوه كفراً وتفريقاً بني املؤمنني وإرصاداً ملن حارب اللّه‬
                                                                  ‫ِّ َ‬
  ‫ورسوله، وعرضوا على رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم أن يصلي فيه، وإمنا مرامهم بذلك‬
   ‫أن خيدعوا املؤمنني فال يفطنوا ما يؤيت به يف هذا املسجد من الدس واملؤامرة ضدهم، وال‬
   ‫يلتفتوا إىل من يرده ويصدر عنه، فيصري كرة مأمونة هلؤالء املنافقني ولرفقائهم يف ج،‬
      ‫اخلار‬                                           ‫و‬
         ‫ولكن رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم أخر الصالة فيه ـ إىل قفوله من الغزوة ـ لشغله‬
     ‫باجلهاز، ففشلوا يف مرامهم وفضحهم اللّه، حىت قام الرسول صلى اهلل عليه وسلم هبدم‬
                                            ‫املسجد بعد القفول من الغزو، بدل أن يصلي فيه‬
‫الرسول صلى اهلل عليه وسلم يقرر القيام بإقدام حاسم‬      ‫‪‬‬
‫ولكن الرسول صلى اهلل عليه وسلم كان ينظر إىل الظروف والتطورات بنظر أدق وأحكم من هذا كله، إنه كان يري أنه‬
       ‫لو تواين وتكاسل عن غزو الرومان يف هذه الظروف احلامسة، وترك الرومان لتجوس خالل املناطق اليت كانت حتت‬
     ‫سيطرة اإلسالم ونفوذه، وتزحف إىل املدينة كان له أسوأ أثر على الدعوة اإلسالمية وعلى مسعة املسلمني العسكرية،‬
       ‫فاجلاهلية اليت تلفظ نفسها األخري بعد ما لقيت من الضربة القاصمة يف حنني ستحيا مرة أخري، واملنافقون الذين‬
 ‫يرتبصون الدوائر باملسلمني، ويتصلون مبلك الرومان بواسطة أيب عامر الفاسق سيبعجون بطون املسلمني خبناجرهم من‬
       ‫اخللف، يف حني هتجم الرومان حبملة ضارية ضد املسلمني من األمام، وهكذا خيفق كثري من اجلهود اليت بذهلا هو‬
            ‫أصحابه يف نشر اإلسالم، وتذهب املكاسب اليت حصلوا عليها بعد حروب دامية ودوريات عسكرية متتابعة‬
                                                                       ‫متواصلة... تذهب هذه املكاسب بغري جدوي.‬
    ‫كان رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم يعرف كل ذلك جيداً، ولذلك قرر القيام ـ مع ما كان فيه من العسرة والشدة ـ‬
                    ‫بغزوة فاصلة خيوضها املسلمون ضد الرومان يف حدودهم، وال ْيهلوهنم حىت يزحفوا إىل دار اإلسالم.‬
                                                                                          ‫اإلعالن بالتهيؤ لقتال الرومان‬
  ‫وملا قرر الرسول صلى اهلل عليه وسلم املوقف أعلن يف الصحابة أن يتجهزوا للقتال، وبعث إىل القبائل من العرب وإىل‬
    ‫أهل مكة يستنفرهم. كان قل ما يريد غزوة يغزوها إال وري بغريها، ولكنه نظراً إىل خطورة املوقف وإىل شدة العسرة‬
                                                              ‫َ َّ‬                                ‫و‬
    ‫أعلن أنه يريد لقاء الرومان، وجلي للناس أمرهم ؛ ليتأهبوا أهبة كاملة، وحضهم على اجلهاد، ونزلت قطعة من سورة‬
      ‫براءة تثريهم على اجلالد، وحتثهم على القتال، ورغبهم رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم يف بذل الصدقات، وإنفاق‬
                                                                                           ‫كرائم األموال يف سبيل اللّه.‬
‫املسلمون يتسابقون إىل التجهز للغزو‬           ‫‪‬‬
     ‫ومل يكن من املسلمني أن مسعوا صوت رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم يدعو إىل قتال الروم إال وتسابقوا إىل امتثاله،‬
   ‫فقاموا يتجهزون للقتال بسرعة بالغة، وأخذت القبائل والبطون هتبط إىل املدينة من كل صوب وناحية، ومل يرض أحد‬
          ‫من املسلمني أن يتخلف عن هذه الغزوة ـ إال الذين يف قلوهبم مرض وإال ثالثة نفر ـ حىت كان جييء أهل احلاجة‬
‫ِ‬             ‫ِ‬           ‫ِ‬
‫والفاقة يستحملون رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم ؛ ليخرجوا إىل قتال الروم، فإذا قال هلم: {الَ أَجد ما أَمحلُكم علَْيه‬
     ‫ُ َ ْ ُْ َ‬
                                                                        ‫َِ ُ َ ِ ُ َ‬                         ‫ِ ِ‬
                                                      ‫تَـولَّواْ وأَعيُـنُـهم تَفيض من َّمع حزنًا أَالَّ جيدواْ ما يُنفقون} [التوبة:29].‬
                                                                                                ‫ُ َ الد ْ ِ َ َ‬       ‫َ َّ ْ ُ ْ‬
‫كما تسابق املسلمون يف إنفاق األموال وبذل الصدقات، كان عثمان بن عفان قد جهز عرياً للشام، مائتا بعري بأقتاهبا‬
       ‫وأحالسها، ومائتا أوقية، فتصدق هبا، مث تصدق مبائة بعري بأحالسها وأقتاهبا، مث جاء بألف دينار فنثرها يف حجره‬
     ‫صلى اهلل عليه وسلم، فكان رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم يقلبها ويقول: (ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم) ، مث‬
                                          ‫َ َّ‬
                                                ‫تصدق وتصدق حىت بلغ مقدار صدقته تسعمائة بعري ومائة فرس سوى النقود.‬
       ‫وجاء عبد الرمحن بن عوف مبائيت أوقية فضة، وجاء أبو بكر مباله كلّه ومل يرتك ألهله إال اللّه ورسوله ـ كانت أربعة‬
                       ‫و‬
       ‫آالف درهم ـ وهو أول من جاء بصدقته. وجاء عمر بنصف ماله، وجاء العباس مبال كثري، وجاء طلحة وسعد بن‬
     ‫عبادة وحممد بن مسلمة، كلهم جاءوا مبال. وجاء عاصم بن عدي بتسعني وسقا من التمر، وتتابع الناس بصدقاهتم‬
                                               ‫َ ًْ‬
 ‫قليلها كثريها، حىت كان منهم من أنفق مدا أو مدين مل يكن يستطيع غريها. وبعثت النساء ما قدرن عليه من مسك‬
      ‫ََ‬                                                                             ‫ُّ‬                                    ‫و‬
                                                                                                   ‫ومعاضد وخالخل وقُـرط وخوامت.‬
                ‫ومل ْيسك أحد يده، ْومل يبخل مباله إال املنافقون {الَّذين يـ ْلمزون الْمطَّوعني من الْمؤمنِني ِيف الصدقَات والَّ ِ‬
         ‫َ ذين الَ‬       ‫َّ َ ِ‬          ‫ِْ‬       ‫ِّ ِ ِ‬          ‫ِ‬        ‫ِ‬
             ‫َ‬                       ‫ََ ُ َ ُ َ َ ُ َ‬                                               ‫ِ‬                               ‫ِ‬
                                                                             ‫جيدون إِالَّ جهدهم فَـيَسخرون مْنـهم}[التوبة: 97].‬
                                                                                               ‫َ ُ َ ُ ْ َ ُ ْ ْ َُ َ ُ ْ‬
‫اجليش اإلسالمي إىل تبوك‬     ‫‪‬‬
                   ‫ِ‬
   ‫وهكذا جتهز اجليش، فاستعمل رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم على املدينة حممد بن مسلمة األنصاري، وقيل: سبَاع بن عرفُطَة،‬
    ‫ُْ َ‬
 ‫وخلف على أهله على بن أيب طالب، وأمره باإلقامة فيهم، وغمص عليه املنافقون، ج فلحق برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم،‬
                                         ‫فخر‬                   ‫ََ َ‬
                                    ‫فرده إىل املدينة وقال: (أال ترضى أن تكون مين مبنزلة هارون من موسي، إال أنه ال نيب بعدي).‬
  ‫وحترك رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم يوم اخلميس حنو الشمال يريد تبوك، ولكن اجليش كان كبرياً ـ ثالثون ألف مقاتل، مل ج‬
    ‫خير‬
 ‫املسلمون يف مثل هذا اجلمع الكبري قبله قط ـ فلم يستطع املسلمون مع ما بذلوه من األموال أن جيهزوه جتهيزاًكامالً، بل كانت يف‬
 ‫اجليش قلة شديدة بالنسبة إىل الزاد واملراكب، فكان مثانية عشر رجالً يعتقبون بعرياً واحداً، ورمبا أكلوا أوراق األشجار حىت تورمت‬
                  ‫ُ ِ‬
                ‫شفاههم، واضطروا إىل ذبح البعري ـ مع قلتها ـ ليشربوا ما يف كرشه من املاء، ولذلك مسي هذا اجليش جيش العسرة.‬
                   ‫َْ‬
‫ومر اجليش اإلسالمي يف طريقه إىل تبوك باحلِجر ـ ديار مثود الذين جابوا الصخر بالواد، أي وادي القرى ـ فاستقي الناس من بئرها،‬
                             ‫َُ‬                                                  ‫ْ‬
        ‫فلما راحوا قال رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم: (ال تشربوا من مائها وال تتوضأوا منه للصالة، وما كان من عجني عجنتموه‬
                           ‫فاعلفوه اإلبل، وال تأكلوا منه شيئاً)، وأمرهم أن يستقوا من البئر اليت كانت تردها ناقة صاحل رسول اهلل.‬
     ‫ويف الصحيحني عن ابن عمر قال: ملا مر النيب صلى اهلل عليه وسلم باحلجر قال: (ال تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن‬
                                          ‫يصيبكم ما أصاهبم إال أن تكونوا باكني)، مث قَنع رأسه و ع بالسري حىت جاز الوادي.‬
                                                                    ‫أسر‬        ‫َ‬
   ‫واشتدت يف الطريق حاجة اجليش إىل املاء حىت شكوا إىل رسول اللّه، فدعا اللّه، فأرسل اللّه سحابة فأمطرت حىت ارتوي الناس،‬
                                                                                                    ‫واحتملوا حاجاهتم من املاء.‬
‫وملا قرب من تبوك قال: (إنكم ستأتون غداً إن شاء اللّه تعاىل عني تبوك، وإنكم لن تأتوها حىت يَضحي النهار، فمن جاءها فال ْيس من مائها شيئاً حىت‬
                                                      ‫َْ‬                                                                                                      ‫‪‬‬
   ‫آيت)، قال معاذ: فجئنا وقد سبق إليها رجالن، والعني تَبِض بشيء من مائها، فسأهلما رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم: (هل مسستما من مائها شيئاً؟)‬
                                                                                               ‫ُّ‬
  ‫قاال: نعم. وقال هلما ما شاء اللّه أن يقول. مث غرف من العني قليالً قليالً حىت اجتمع الْوشل ، مث غسل رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم فيه وجهه ويده،‬
                                                               ‫ََ ُ‬
    ‫مث أعاده فيها فجرت العني مباء كثري، فاستقي الناس، مث قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم: (يوشك يا معاذ، إن طالت بك حياة أن تري ماهاهنا قد‬
                                                                                                                                             ‫ملئ جناناً).‬
‫ويف الطريق أو ملا بلغ تبوك ـ على اختالف الروايات ـ قال رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم: (هتب عليكم الليلة ريح شديدة، فال يقم أحد منكم، فمن كان‬
                                                                                                                                       ‫َِ‬
                                                                 ‫له بعري فليشد عقالَه)، فهبت ريح شديدة، فقام رجل فحملته الريح حىت ألقته جببلي طيئ.‬
               ‫كليهما.‬
                     ‫كان دأب رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم يف الطريق أنه كان جيمع بني الظهر والعصر، وبني املغرب والعشاء مجع التقدمي ومجع التأخري‬          ‫و‬
                                                                                                                                 ‫اجليش اإلسالمي بتبوك‬
 ‫نزل اجليش اإلسالمي بتبوك، فعسكر هناك، وهو مستعد للقاء العدو، وقام رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم فيهم خطيباً، فخطب خطبة بليغة، أيت جبوامع‬
       ‫الكلم، وحض على خري الدنيا واآلخرة، وحذر وأنذر، وبشر وأبشر، حىت رفع معنوياهتم، وجرب هبا ما كان فيهم من النقص واخللل من حيث قلة الزاد‬
‫واملادة واملؤنة. وأما الرومان وحلفاؤهم فلما مسعوا بزحف رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم أخذهم الرعب، فلم جيرتئوا على التقدم واللقاء، بل تفرقوا يف البالد‬
‫يف داخل حدودهم، فكان لذلك أحسن أثر بالنسبة إىل مسعة املسلمني العسكرية، يف داخل اجلزيرة وأرجائها النائية، وحصل بذلك املسلمون على مكاسب‬
                                                                  ‫سياسية كبرية خطرية، لعلهم مل يكونوا حيصلون عليها لو وقع هناك اصطدام بني اجليشني.‬
      ‫جاء حيَنَّةُ بن رؤبَةَ صاحب أيْـلَةَ، فصاحل الرسول صلى اهلل عليه وسلم وأعطاه اجلزية، وأتاه أهل ج ْربَاء وأهل أذ ُح، فأعطوه اجلزية، كتب هلم رسول اللّه‬
                         ‫و‬                    ‫ْر‬           ‫َ‬                                                                              ‫ُْ‬          ‫ُ‬
 ‫مينَاء على ربع مثارها، كتب لصاحب أيلة: (بسم اللّه الرمحن الرحيم، هذه أمنة من اللّه وحممد النيب‬
                                                                             ‫و‬                     ‫صلى اهلل عليه وسلم كتاباً فهو عندهم، وصاحله أهل ِ‬
         ‫رسول اللّه ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة، سفنهم وسياراهتم يف الرب والبحر هلم ذمة اللّه وذمة حممد النيب، ومن كان معه من أهل الشام وأهل البحر، فمن‬
     ‫أحدث منهم حدثاً، فإنه ال حيول ماله دون نفسه، وإنه طيب ملن أخذه من الناس، وأنه ال حيل أن ْينعوا ماء يردونه، وال طريقاً يريدونه من بر أو حبر).‬
‫ِ‬
                                                                  ‫َ َُِ َ‬
 ‫وبعث رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم خالد بن الوليد إىل أُكْيدر دومة اجلَْندل يف أربعمائة وعشرين فارساً، وقال له: (إنك ستجده‬                      ‫‪‬‬
‫يصيد البقر) ، فأتاه خالد، فلما كان من حصنه مبنظر العني، خرجت بقرة، حتك بقروهنا باب القصر، ج أكيدر لصيدها ـ كانت‬
     ‫و‬                            ‫فخر‬
        ‫ليلة مقمرة ـ فتلقاه خالد يف خيله، فأخذه وجاء به إىل رسول اللّهصلى اهلل عليه وسلم، فحقن دمه، وصاحله على ألفي بعري،‬
               ‫ومثامنائة رأس وأربعمائة ع، وأربعمائة رمح، وأقر بإعطاء اجلزية، فقاضاه مع حيَنَّة على قضية دومة وتبوك وأيْـلَةَ وتَـْيماء.‬
                        ‫َ‬                  ‫َُ‬                   ‫ُ‬                                                   ‫در‬
      ‫وأيقنت القبائل اليت كانت تعمل حلساب الرومان أن اعتمادها على سادهتا األقدمني قد فات أوانه، فانقلبت لصاحل املسلمني،‬
           ‫وهكذا توسعت حدود الدولة اإلسالمية، حىت القت حدود الرومان مباشرة، وشهد عمالء الرومان هنايتهم إىل حد كبري.‬
                                                                                                                            ‫الرجوع إىل املدينة‬
‫ورجع اجليش اإلسالمي من تبوك مظفرين منصورين، مل ينالوا كيداً، كفي اهلل املؤمنني القتال، ويف الطريق عند عقبة حاول اثنا عشر‬
                                                                           ‫و‬
       ‫رجالً من املنافقني الفتك بالنيب صلى اهلل عليه وسلم، وذلك أنه حينما كان ْير بتلك العقبة كان معه عمار يقود بزمام ناقته،‬
 ‫وحذيفة ابن اليمان يسوقها، وأخذ الناس ببطن الوادي، فانتهز أولئك املنافقون هذه الفرصة. فبينما رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم‬
 ‫وصاحباه يسريان إذ مسعوا كزة القوم من ورائهم، قد غشوه وهم ملتثمون، فبعث حذيفة فضرب وجوه رواحلهم مبِحجن كان معه ،‬
                ‫َْ‬                                                                                                ‫و‬
‫فأرعبهم اللّه، فأسرعوا يف الفرار حىت حلقوا بالقوم، وأخرب رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم بأمسائهم، ومبا مهوا به، فلذلك كان حذيفة‬
                 ‫يسمي بصاحب سـر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم، ويف ذلك يقول اللّه تعايل: {ومهُّواْ ِمبَا ملْ يَـنَالُوا} [التوبة:47].‬
                                              ‫َ‬           ‫ََ‬
‫وملا الحت للنيب صلى اهلل عليه وسلم معامل املدينة من بعيد قال: (هذه طَابَةُ، وهذا أحد، جبل حيبنا وحنبه)، وتسامع الناس مبقدمه،‬
                                                   ‫ٌُ‬
                                                                              ‫ج النساء والصبيان والوالئد يقابلن اجليش حبفاوة بالغة ويقلن:‬ ‫فخر‬
                                                                                                        ‫طلع البـدر علينا ** من ثنيات الوداع‬
                                                                                                       ‫وجب الشكر علينا ** ما دعا للع داع‬
  ‫كانت عودته صلى اهلل عليه وسلم من تبوك ودخوله يف املدينة يف رجب سنة 9هـ ، واستغرقت هذه الغزوة مخسني يوماً، أقام منها‬                       ‫و‬
                 ‫عشرين يوماً يف تبوك، والبواقي قضاها يف الطريق جيئة وذهوبًا. كانت هذه الغزوة آخر غزواته صلى اهلل عليه وسلم.‬
                                                                               ‫و‬
‫بـدايـة املـرض‬           ‫‪‬‬
‫ويف اليوم الثامن أو التاسع والعشرين من شهر صفر سنة11 هـ ـ كان يوم االثنني ـ شهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم جنازة يف البقيع، فلما رجع،‬
                                                                            ‫و‬
                         ‫وهو يف الطريق أخذه صداع يف رأسه، واتقدت احلرارة، حىت إهنم كانوا جيدون سورهتا فوق العِصابة اليت تعصب هبا رأسه.‬
                                                 ‫َ‬          ‫َ ََْ‬
                                   ‫وقد صلي النيب صلى اهلل عليه وسلم بالناس وهو مريض 11 يوماً، ومجيع أيام املرض كانت 13، أو 14 يوماً.‬

                                                                                                                      ‫األسبوع األخري‬
 ‫وثقل برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم املرض، فجعل يسأل أزواجه: (أين أنا غداً؟ أين أنا غداً؟) ففهمن مراده، فأذن له يكون حيث شاء، فانتقل‬
‫إىل بيت عائشة ْيشي بني الفضل بن عباس وعلى بن أيب طالب، عاصباً رأسه، ختط قدماه حىت دخل بيتها، فقضي عندها آخر أسبوع من حياته.‬
     ‫كانت عائشة تقرأ باملعوذات واألدعية اليت حفظتها من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم، فكانت تنفث على نفسه، ومتسحه بيده رجاء كة.‬
        ‫الرب‬                                                                                                                       ‫و‬

                                                                                                                            ‫قبل الوفاة خبمسة أيام‬
    ‫ويوم األربعاء قبل مخسة أيام من الوفاة، اتقدت حرارة العلة يف بدنه، فاشتد به الوجع وغمي، فقال: (هريقوا علي سبع قِرب من آبار شيت، حىت‬
                         ‫َ‬
                                                                                               ‫ِ ٍَ‬
                                   ‫ج إىل الناس، فأعهد إليهم)، فأقعدوه يف خمَضب ، وصبوا عليه املاء حىت طفق يقول: (حسبكم، حسبكم).‬               ‫أخر‬
‫وعند ذلك أحس خبفة، فدخل املسجد متعطفاً ملحفة على منكبيه، قد عصب رأسه بعصابة دمسة حىت جلس على املنرب، كان آخر جملس جلسه،‬
                     ‫و‬
 ‫فحمد اهلل وأثين عليه، مث قال: (أيها الناس، إيل)، فثابوا إليه، فقال ـ فيما قال: (لعنة اهلل على اليهود والنصارى، اختذوا قبور أنبيائهم مساجد) ـ ويف‬
                                            ‫رواية: (قاتل اهلل اليهود والنصارى، اختذوا قبور أنبيائهم مساجد) ـ وقال: (ال تتخذوا قربي وثناً يعبد).‬
‫وعرض نفسه للقصاص قائالً: (من كنت جلدت له ظَهرا فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عِرضاً فهذا عرضي فليستقد منه).‬
                                                                        ‫ْ‬                                                ‫ًْ‬                                                              ‫‪‬‬
        ‫مث نزل فصلى الظهر، مث رجع فجلس على املنرب، وعاد ملقالته األويل يف الشحناء وغريها. فقال رجل: إن يل عندك ثالثة دراهم، فقال: (أعطه يا فضل)، مث أوصي باألنصار قائالً:‬
                ‫ِ ُّ‬                                                               ‫حم ِ‬                                                    ‫ِ‬       ‫ِِ‬
‫(أوصيكم باألنصار، فإهنم كرشي وعَْيبَيت، وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي هلم، فاقبلوا من ُْسنهم، وجتاوزوا عن مسيئهم)، ويف رواية أنه قال: (إن الناس يكثرون، وتَقل األنصار حىت‬
                                                                                                                                                    ‫ْ‬
                                                                   ‫يكونوا كامللح يف الطعام، فمن ويل منكم أمراً يضر فيه أحداً أو ينفعه فليقبل من حمسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم).‬
‫مث قال: (إن عبداً خريه اهلل بني أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبني ما عنده، فاختار ما عنده). قال أبو سعيد اخلدري: فبكي أبو بكر. قال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فعجبنا له، فقال‬
   ‫الناس: انظروا إىل هذا الشيخ، خيرب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عن عبد خريه اهلل بني أن يؤتيه من زهرة الدنيا، وبني ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. فكان رسول اهلل‬
                                                                                                                            ‫صلى اهلل عليه وسلم هو املخري، كان أبو بكر أعلمنا.‬
                                                                                                                                               ‫و‬
   ‫مث قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم: (إن من أمن الناس على يف صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليالً غري ريب ال ختذت أبا بكر خليالً، ولكن أخوة اإلسالم ومودته، ال‬
                                                                                                                               ‫ّ‬
                                                                                                                                 ‫يبقني يف املسجد باب إال سد، إال باب أيب بكر).‬

                                                                                                                                                                        ‫قبل أربعة أيام‬
 ‫ويوم اخلميس قبل الوفاة بأربعة أيام قال ـ وقد اشتد به الوجع: (هلموا أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده) ـ ويف البيت رجال فيهم عمر ـ فقال عمر: قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن،‬
     ‫حسبكم كتاب اهلل، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغط واالختالف‬
                                                                                                                                     ‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم: (قوموا عين).‬
      ‫وأوصى ذلك اليوم بثالث: أوصي بإخراج اليهود والنصاري و كني من جزيرة العرب، وأوصي بإجازة الوفود بنحو ما كان جييزهم، أما الثالث فنسيه الراوي. ولعله الوصية باالعتصام‬
                                                                                                                        ‫املشر‬
                                                                                                          ‫بالكتاب والسنة، أو تنفيذ جيش أسامة، أو هي: (الصالة وما ملكت أْيانكم).‬
         ‫والنيب صلى اهلل عليه وسلم مع ما كان به من شدة املرض كان يصلي بالناس مجيع صلواته حىت ذلك اليوم ـ يوم اخلميس قبل الوفاة بأربعة أيام ـ وقد صلي بالناس ذلك اليوم صالة‬
                                                                                                                                                    ‫املغرب، فقرأ فيها باملرسالت عرفاً.‬
    ‫َ ى الناس؟) قلنا: ال يا رسول اهلل، وهم ينتظرونك. قال: (ضعوا‬  ‫وعند العشاء زاد ثقل املرض، حبيث مل يستطع اخلروج إىل املسجد. قالت عائشة: فقال النيب صلى اهلل عليه وسلم: (أصلَّ‬
 ‫يل ماء يف املِخضب)، ففعلنا، فاغتسل، فذهب لينوء فأغمي عليه. مث أفاق، فقال: (أصلى الناس؟) ـ ووقع ثانياً وثالثاً ما وقع يف املرة األويل من االغتسال مث اإلغماء حينما أراد أن ينوء ـ‬
                                                                                                                                                                     ‫ْ َ‬
   ‫فأرسل إىل أيب بكر أن يصلي بالناس، فصلي أبو بكر تلك األيام 71 صالة يف حياته صلى اهلل عليه وسلم، وهي صالة العشاء من يوم اخلميس، وصالة الفجر من يوم اإلثنني، ومخس‬
                                                                                                                                                              ‫عشرة صالة فيما بينها.‬
‫وراجعت عائشة النيب صلى اهلل عليه وسلم ثالث أو أربع مرات ؛ ليصرف اإلمامة عن أيب بكر حىت ال يتشاءم به الناس ، فأيب وقال: (إنكن ألننت صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل‬
                                                                                                                                                                              ‫بالناس).‬
‫قبل ثالثة أيام‬   ‫‪‬‬
                                                              ‫قال جابر: مسعت النيب صلى اهلل عليه وسلم قبل موته بثالث وهو يقول: (أال ال ْيوت أحد منكم إال وهو حيسن الظـن باهلل).‬
                                                                                                                                                                      ‫قبل يوم أو يومني‬
     ‫ويوم السبت أو األحد وجد النيب صلى اهلل عليه وسلم يف نفسه خفة، ج بني رجلني لصالة الظهر، وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه بأال يتأخر،‬
                                                                                                               ‫فخر‬
                                              ‫قال: (أجلساين إىل جنبه)، فأجلساه إىل يسار أيب بكر، فكان أبو بكر يقتدي بصالة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ويسمع الناس التكبري.‬
                                                                                                                                                                                ‫قبل يوم‬
 ‫وقبل يوم من الوفاة ـ يوم األحد ـ أعتق النيب صلى اهلل عليه وسلم غلمانه، وتصدق بستة أو سبعة دنانري كانت عنده ، ووهب للمسلمني أسلحته، ويف الليل أرسلت عائشة مبصباحها امرأة‬
                                          ‫من النساء وقالت: أقطري لنا يف مصباحنا من عُكتِك السمن ، كانت درعه صلى اهلل عليه وسلم مرهونة عند يهودي بثالثني صاعاً من الشعري.‬
                                                                                                                       ‫و‬               ‫َّ‬
                                                                                                                                                                    ‫آخر يوم من احلياة‬
‫روي أنس بن مالك: أن املسلمني بينا هم يف صالة الفجـر من يوم االثنني ـ وأبو بكر يصلي هبم ـ مل يفجأهم إال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كشف سرت حجرة عائشة فنظر إليهم، وهم‬
      ‫يف صفوف الصالة، مث تبسم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبيه ؛ ليصل الصف، وظن أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يريد أن ج إىل الصالة. فقال أنس: وهم املسلمون أن‬
                    ‫َ َّ‬                          ‫خير‬
                               ‫يفتتنوا يف صالهتم، فَـرحا برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم، فأشار إليهم بيده رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن أمتوا صالتكم، مث دخل احلجرة وأرخي السرت.‬
                                                                                                                                                                 ‫ًَ‬
                                                                                                                      ‫مث مل يأت على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وقت صالة أخرى.‬
 ‫وملا ارتفع الضحى، دعا النيب صلى اهلل عليه وسلم فاطمة فسارها بشيء فبكت، مث دعاها، فسارها بشيء فضحكت، قالت عائشة: فسألنا عن ذلك ـ أي فيما بعد ـ فقالت: سارين النيب‬
                                                                                                                            ‫َ َّ‬
                                                                          ‫صلى اهلل عليه وسلم أنه يقبض يف وجعه الذي تويف فيه، فبكيت، مث سارين فأخربين أين أول أهله يتبعه فضحكت.‬
                                                                                                                        ‫وبشر النيب صلى اهلل عليه وسلم فاطمة بأهنا سيدة نساء العاملني.‬
                                                                                                     ‫ورأت فاطمة ما برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من الكرب الشديد الذي يتغشاه.‬
                                                                                                                      ‫فقالت: وا كرب أباه. فقال هلا: (ليس على أبيك كرب بعد اليوم).‬
                                                                                                     ‫ودعا احلسن واحلسني فقبلهما، وأوصي هبما خرياً، ودعا أزواجه فوعظهن وذكرهن.‬
                        ‫َِ‬
  ‫وطفق الوجع يشتد ويزيد، وقد ظهر أثر السم الذي أكله خبيرب حىت كان يقول: (يا عائشة، ما أزال أجد أمل الطعام الذي أكلت خبيرب، فهذا أوان وجدت انقطاع أبْـهري من ذلك السم).‬
        ‫وقد ح مخيصة له على وجهه، فإذا اغتم هبا كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك ـ كان هذا آخر ما تكلم وأوصي به الناس: (لعنة اهلل على اليهود والنصارى، اختذوا قبور أنبيائهم‬
                                                                                                  ‫و‬                                                                        ‫ِ‬
                                                                                                                                                                        ‫طر َ َ‬
                                                                                                                                 ‫مساجد ـ حيذر ما صنعوا ـ ال يبقني دينان بأرض العرب).‬
                                                                                                         ‫وأوصى الناس فقال: (الصالة، الصالة، وما ملكت أْيانكم)، كــرر ذلك م ـراراً.‬
‫االحتضار‬   ‫‪‬‬
  ‫وبدأ االختصار فأسندته عائشة إليها، كانت تقول: إن من نعم اهلل على أن رسول اهلل صلى اهلل‬
                                                             ‫و‬
                                                ‫َ ْ ِ َْ ِ‬
    ‫عليه وسلم تويف يف بييت ويف يومي وبني سحري وحنري، وأن اهلل مجع بني ريقي وريقه عند موته.‬
 ‫دخل عبد الرمحن ـ بن أيب بكر ـ وبيده السواك، وأنا مسندة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم، فرأيته‬
      ‫ينظر إليه، وعرفت أنه حيب السواك، فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم. فتناولته فاشتد‬
‫عليه، وقلت: ألينه لك؟ فأشار برأسه أن نعم. فلينته، فأمره ـ ويف رواية أنه اسنت به كأحسن ما كان‬
  ‫مستنا ـ وبني يديه كوة فيها ماء، فجعل يدخل يديه يف املاء فيمسح به وجهه، يقول: (ال إله إال‬
                                                                              ‫رْ َ‬
                                                                                 ‫َ‬
                                                              ‫اهلل، إن للموت سكرات...) احلديث.‬
‫وما عدا أن غ من السواك حىت رفع يده أو أصبعه، وشخص بصره حنو السقف، كت شفتاه،‬
             ‫وحتر‬                                                                    ‫فر‬
         ‫فأصغت إليه عائشة وهو يقول: (مع الذين أنعمت عليهم من النبيني والصديقني والشهداء‬
                  ‫والصاحلني، اللهم اغفر يل وارمحين، وأحلقين بالرفيق األعلي. اللهم، الرفيق األعلي).‬
               ‫كرر الكلمة األخرية ثالثاً، ومالت يده وحلق بالرفيق األعلي. إنا هلل وإنا إليه راجعون.‬
      ‫وقع هذا احلادث حني اشتدت الضحي من يوم االثنني 21 ربيع األول سنة 11هـ، وقد مت له‬
                                                           ‫صلى اهلل عليه وسلم ثالث وستون سنة .‬
eng-motasem@hotmail.com

  M3hash@gmail.com

More Related Content

PPT
السيرة النبوية
PPS
الـسـيـرة النبـويـة
PPS
السيرة النبوية
PPT
دعوة الرسول
PDF
النبي رسول الله محمد صلى الله عليه و سلم
PPT
من أخلاق النبي صلى الله عليه و سلم
PPS
PPS
من قصص الصالحين
السيرة النبوية
الـسـيـرة النبـويـة
السيرة النبوية
دعوة الرسول
النبي رسول الله محمد صلى الله عليه و سلم
من أخلاق النبي صلى الله عليه و سلم
من قصص الصالحين

What's hot (16)

PPS
قصص القران الكيم
PDF
احك لطفلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
PPS
المشبرون 2ج
PPS
قصص القران
PPS
المبشرون 1ج
PPS
عـلـي_إبـن_أبـي_طـالب
PPS
عمر-إبن_الخطاب
DOC
أبو بكر الصديق
PPS
قصص القران
PPS
omarbenelkhattab-الفاروق عمر بن الخطاب
PPT
الخلفاء الراشدين
PPS
أخلاق_سيد_الخلق
PPS
abubakr-أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه
PPT
اخبار الاذكياء
PPS
أبو بكر_الصديق
PPS
العشرة المبشرون بالجنة ـ الجزء الثاني
قصص القران الكيم
احك لطفلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
المشبرون 2ج
قصص القران
المبشرون 1ج
عـلـي_إبـن_أبـي_طـالب
عمر-إبن_الخطاب
أبو بكر الصديق
قصص القران
omarbenelkhattab-الفاروق عمر بن الخطاب
الخلفاء الراشدين
أخلاق_سيد_الخلق
abubakr-أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه
اخبار الاذكياء
أبو بكر_الصديق
العشرة المبشرون بالجنة ـ الجزء الثاني
Ad

Viewers also liked (20)

PDF
Partner Country
PDF
TBV Dijital Gündem Türkiye
PPTX
Mengenal & Mendaftar di Gmail
PDF
Black & Latino dominance on Twitter & Facebook, yet omission from Social Medi...
PDF
EYPigeon
PPT
Eucaristia - repartir unir
PPTX
Indefinite pronouns updated
PPTX
60 seconds
PDF
Twitter Improves Seasonal Influenza Prediction
PPT
강의자료6
PPTX
Responding to objection
PPTX
Corso lim lez 3
PDF
論文紹介: What’s in a like- attitudes and behaviors around receiving likes on fac...
PDF
Argela tanıtım bt ihracat toplantısı_2014
PDF
EBS Digest #5
PDF
Tripwire MarchApril 2012
PPSX
Integrating Webtools for Performance-based Chinese Classroom
PDF
Wii目錄(中文版)
Partner Country
TBV Dijital Gündem Türkiye
Mengenal & Mendaftar di Gmail
Black & Latino dominance on Twitter & Facebook, yet omission from Social Medi...
EYPigeon
Eucaristia - repartir unir
Indefinite pronouns updated
60 seconds
Twitter Improves Seasonal Influenza Prediction
강의자료6
Responding to objection
Corso lim lez 3
論文紹介: What’s in a like- attitudes and behaviors around receiving likes on fac...
Argela tanıtım bt ihracat toplantısı_2014
EBS Digest #5
Tripwire MarchApril 2012
Integrating Webtools for Performance-based Chinese Classroom
Wii目錄(中文版)
Ad

Similar to Mohammed ppuh (20)

PDF
تعرف على نبيك
PPS
alibinabitalib-علي بن أبي طالب رضي الله عنه
PPS
عـلـي إبـن أبـي طـالـب
DOC
إغتيالات محمدية
PPTX
Rangkuman Sejarah Nabi Muhammad by Prof Dr Ustadz Abdul Somad Lc. MA
DOC
عائلة الزين الطرابيشي
PDF
حياة-الرسول-2 (1).pdf.............................
 
PDF
Religion 6th-primary-2nd-term- (1)
DOCX
السيرة النبوية مختصرة
PPS
Holy Zamzam water
PDF
Al sirah al-nabawiyah li ibn hisham
PDF
كتاب صحيح السيرة النبوية بقلم الشيخ الألباني
PPS
قصص الأنبياء
PPTX
الحج 1
PDF
الكامل في إثبات أن قصة عمر بن الخطاب مع القبطي وعمرو بن العاص ومتي استعبدتم ا...
PPS
فى فضل سورة الكهف
PPS
othmanbenaffan-ذو النورين عثمان بن عفان
PPT
علي بن أبي طالب
تعرف على نبيك
alibinabitalib-علي بن أبي طالب رضي الله عنه
عـلـي إبـن أبـي طـالـب
إغتيالات محمدية
Rangkuman Sejarah Nabi Muhammad by Prof Dr Ustadz Abdul Somad Lc. MA
عائلة الزين الطرابيشي
حياة-الرسول-2 (1).pdf.............................
 
Religion 6th-primary-2nd-term- (1)
السيرة النبوية مختصرة
Holy Zamzam water
Al sirah al-nabawiyah li ibn hisham
كتاب صحيح السيرة النبوية بقلم الشيخ الألباني
قصص الأنبياء
الحج 1
الكامل في إثبات أن قصة عمر بن الخطاب مع القبطي وعمرو بن العاص ومتي استعبدتم ا...
فى فضل سورة الكهف
othmanbenaffan-ذو النورين عثمان بن عفان
علي بن أبي طالب

More from Motasem Ash (20)

PDF
Falgs of countries with > 30% muslim population
PDF
Muslims map 1
PDF
Muslims world map
PDF
Maintenance types
DOCX
Hydraulic power plant 1
PDF
Turbine types full
PDF
Impulse turbines
PDF
Energy
PPTX
Sinan pasa
PDF
الحروف العربية arabic alphabit
PPTX
Mohammed ppuh
PDF
Muslims history hirarchy
PDF
Names of alah
PPTX
Names of alah
PDF
Water turbine classifications
PDF
Muslim history hirarchy refrenced
PPTX
تاريخ دول الإسلام
PPT
Analyzing air flow through Sqaure duct
PPTX
Analyzing air flow through Sqaure duct
PPTX
Applying qfd for emergency department
Falgs of countries with > 30% muslim population
Muslims map 1
Muslims world map
Maintenance types
Hydraulic power plant 1
Turbine types full
Impulse turbines
Energy
Sinan pasa
الحروف العربية arabic alphabit
Mohammed ppuh
Muslims history hirarchy
Names of alah
Names of alah
Water turbine classifications
Muslim history hirarchy refrenced
تاريخ دول الإسلام
Analyzing air flow through Sqaure duct
Analyzing air flow through Sqaure duct
Applying qfd for emergency department

Mohammed ppuh

  • 2. ‫عني‬ ‫القائمة‬ ‫مولده‬ ‫نشأته‬ ‫ونسبه‬ ‫الدعوة‬ ‫الدعوة‬ ‫جهرا في‬ ‫سرا في‬ ‫بعثته‬ ‫مكة‬ ‫مكة‬ ‫بيعة العقبة‬ ‫بيعة العقبة‬ ‫اإلسراء‬ ‫الدعوة‬ ‫الثانية‬ ‫األولى‬ ‫والمعراج‬ ‫خارج مكة‬ ‫غزوة‬ ‫المرحلة‬ ‫الهجرة‬ ‫الخندق‬ ‫غزوة أحد‬ ‫غزوة بدر‬ ‫(األحزاب)‬ ‫المدنية‬ ‫إلى المدينة‬ ‫غزوة‬ ‫غزوة‬ ‫غزوة‬ ‫صلح‬ ‫وفاته‬ ‫فتح مكة‬ ‫تبوك‬ ‫مؤتة‬ ‫خيبر‬ ‫الحديبية‬ ‫مصادر‬ ‫قصص األنبياء‬ ‫سيرة ابن هشام‬ ‫تحدي.كوم‬ ‫الرحيق المختوم‬ ‫ويكيبديا‬
  • 3. ‫ولد صلى اهلل عليه وسلم يف مكة يف الثاين عشر من ربيع األول من عام الفيل‬ ‫‪‬‬ ‫(075 او 175 م). نسبه من جهة أبيه : حممد بن عبد اهلل (وهو الذبيح) بن عبد‬ ‫املطلب ـ وامسه شْيبَة ـ بن هاشم ـ وامسه عمرو ـ بن عبد مناف ـ وامسه املغرية ـ بن‬ ‫َ‬ ‫قُصى ـ وامسه زيد ـ بن كِالب بن مرة بن كعب بن لؤى بن غالب بن فِهر ـ وهو‬ ‫ْ‬ ‫ُ َّ‬ ‫َّ‬ ‫امللقب بقريش وإليه تنتسب القبيلة ـ بن مالك بن النَّضر ـ وامسه قيس ـ بن كِنَانة بن‬ ‫ْ‬ ‫خزْْيَة بن مدكة ـ وامسه عامـر ـ بن إلياس بن مضر بن نِزار بن معد بن عدنان ( هذا‬ ‫ََّ‬ ‫َ‬ ‫َُ‬ ‫ِ‬ ‫ُ ْر‬ ‫َُ‬ ‫اجلزء املتفق عليه من نسبه ) وممما ال شك فيه ان عدنان من صريح ولد إمساعيل‬ ‫عليه السالم.‬ ‫نسبه من جهة أمه: آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة بن حكيم ابن مرة الذي‬ ‫‪‬‬ ‫هو اجلد اخلامس للنيب صلى اهلل عليه وسلم من جهة أبيه.‬
  • 4. ‫تويف والده قبل مولده صلى اهلل عليه وسلم قبل والدته بشهرين ( اجلمهور) .‬ ‫‪‬‬ ‫توفيت أمه و هو يف السادسة من عمره .‬ ‫‪‬‬ ‫كفله جده عبداملطلب حىت وفاته وعمره 8 سنوات.‬ ‫‪‬‬ ‫كفله عمه أبو طالب .‬ ‫‪‬‬ ‫أرضعته حليمة السعدية يف ديار بين سعد .‬ ‫‪‬‬ ‫رعى الغنم ألهل مكة.‬ ‫‪‬‬ ‫عندما بلغ الثانية عشر من عمره سافر مع عمه للشام للتجارة و هناك قابل الراهب حبريى‬ ‫‪‬‬ ‫، كان عاملا باإلجنيل ، فنصح عمه أن جيعل حممد صلى اهلل عليه وسلم بعيدا عن اليهود،‬ ‫و‬ ‫قال حبريى : ((ارجع بابن أخيك إىل بلدك واحذر عليه اليهود فواهلل إن رأوه أو عرفوا منه‬ ‫الذي أعرف ليبغنه عنتًا، فإنه كائن البن أخيك شأن عظيم جنده يف كتبنا وما ورثنا من‬ ‫آبائنا))‬
  • 5. ‫لقب صلى اهلل عليه وسلم بالصادق األمني يف مكة.‬ ‫‪‬‬ ‫عرف عنه صلى اهلل عليه وسلم أنه مل يسجد لصنم قط.‬ ‫‪‬‬ ‫تزوج خدجية بنت خويلد وهو يف اخلامسة والعشرين من العمر.‬ ‫‪‬‬ ‫أجنب صلى اهلل عليه وسلم من خدجية القاسم و عبداهلل و فاطمة و أم كلثوم و‬ ‫‪‬‬ ‫زينب و رقية.‬ ‫كان ج لإلعتكاف والتفكر يف خلق الدنيا إىل غار حراء ، وهو غار موجود يف‬‫خير‬ ‫‪‬‬ ‫إحدى جبال مكة.‬ ‫بعث صلى اهلل عليه وسلم وهو يف األربعني من عمره، اذ نزل عليه الوحي بوساطة‬ ‫‪‬‬ ‫جربيل عليه السالم وهو معتكف يف غر حراء يف شهر رمضان املبارك.‬
  • 6. ‫بعث صلى اهلل عليه وسلم وهو يف األربعني من عمره وهو معتكف يف غار حراء.‬ ‫‪‬‬ ‫كان أول ما نزل عليه من القرأن عن طريق جربيل عليه السالم : (إقرأ) و اوائل سورة‬‫و‬ ‫‪‬‬ ‫العلق.‬ ‫رجع صلى اهلل عليه وسلم بعدها خائفا إىل زوجته خدجية وأبلغها مبا حصل، فذهبت‬ ‫‪‬‬ ‫إىل ورقة ابن نوفل كان ابن عمها كان تنصر يف اجلاهلية كان عاملا يف اإلجنيل،‬ ‫و‬ ‫و‬ ‫و‬ ‫فلما أتى سيدنا حممد صلى اهلل عليه و سلم وقص عليه ما جرى، بشره بأن ما رآه‬ ‫هو نفس امللك الذي أتى سيدنا عيسى عليه السالم من قبل، و وعده إن ادرك بعثته‬ ‫ليكونن من الناصرين لسيدنا حممد صلى اهلل عليه وسلم، لكنه ما لبث ان تويف.‬
  • 7. ‫كانت الدعوة اىل االسالم يف مكة قد بدأت سرا، كان يعقد اجتماع املسلمني يف‬ ‫و‬ ‫‪‬‬ ‫دار األرقم ابن ايب األرقم.‬ ‫كان أول من أمن من النساء خدجية بنت خويلد.‬ ‫‪‬‬ ‫كان أول من أمن من الصبيان علي بن أيب طالب كرم اهلل وجهه و رضي عنه.‬ ‫‪‬‬ ‫كان أول من أمن من الرجال أبو بكر الصديق رضي اهلل عنه.‬ ‫‪‬‬ ‫استمرت الدعوة السرية يف مكة 3 سنوات.‬ ‫‪‬‬
  • 8. ‫ِ ِ‬ ‫بدءت الدعوة جهرا مع نزول اآلية {وأَنذر عشريتَك األَقْـربِني} [الشعراء:412]‬ ‫َ ْ َ َ َ ْ َ َ‬ ‫‪‬‬ ‫فصعد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إىل جبل الصفا ونادى يف أهل مكة ، فجاؤوه ومن‬ ‫‪‬‬ ‫مل يستطع بعث برسول لريى ما اخلطب ، فقال هلم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :‬ ‫((أرأيتكم لو أخربتكم أن خيال بالوادى بسفح هذا اجلبل تريد أن تغري عليكم أكنتم‬ ‫َْ‬ ‫ً‬ ‫مص ِّقِى؟).‬ ‫ُ َ د َّ‬ ‫قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذبًا، ما جربنا عليك إال صدقًا.‬ ‫قال: (إىن نذير لكم بني يدى عذاب شديد، إمنا مثلى ومثلكم كمثل رجل رأي العدو‬ ‫َ ُّ‬ ‫فانطلق يَـ ْربَأ أهله)( أي يتطلع وينظر هلم من مكان مرتفع لئال يدمههم العدو) (خشى أن‬ ‫يسبقوه فجعل ينادى: يا صباحاه)‬ ‫مث دعاهم إىل احلق، وأنذرهم من عذاب اهلل.‬ ‫و مع بدء الدعوة اجلهرية، بدأت مراحل التحريض و اإلكراه والتعذيب حبق كل من اتبع‬ ‫‪‬‬ ‫هذا الدين.‬
  • 9. ‫وخالل هذه األيام أهم قريشا أمر آخر،وذلك أن اجلهر بالدعوة مل ْيض عليه إال أيام أو أشهر‬ ‫ً‬ ‫‪‬‬ ‫معدودة حىت قرب موسم احلج، وعرفت قريش أن وفود العرب ستقدم عليهم، فرأت أنه البد من كلمة‬ ‫يقولوهنا للعرب، يف شأن حممد صلى اهلل عليه وسلم حىت ال يكون لدعوته أثر يف نفوس العرب،‬ ‫فاجتمعوا إىل الوليد بن املغرية يتداولون يف تلك الكلمة، فقال هلم الوليد: أمجعوا فيه رأيـًا واحدا،وال‬ ‫ً‬ ‫ختتلفوا فيكذب بعضكم بعضا، ويرد قولكم بعضه بعضا، قالوا: فأنت فقل، وأقم لنا رأيًا نقول به.‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫قال: بل أنتم فقولوا أمسع. قالوا: نقول: كاهن. قال: ال واهلل ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو‬ ‫بزمزمة الكاهن وال سجعه. قالوا: فنقول: جمنون، قال: ما هو مبجنون، لقد رأينا اجلنون وعرفناه، ما هو‬ ‫َ ْ ََ‬ ‫خبَْنقه وال ختَاجلِه وال وسوسته. قالوا: فنقول: شاعر. قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشعر كله رجزه‬ ‫َ ُ‬ ‫ِ‬ ‫َ ََ‬ ‫ََ َ ِ َ َ ْ‬ ‫وهزجه وقَريضه ومقبُوضه ومْبسوطه، فما هو بالشعر، قالوا: فنقول: ساحر. قال: ما هو بساحر، لقد‬ ‫َ ُ‬ ‫ْ ِِ‬ ‫رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنَـفثِهم وال عقدهم. قالوا: فما نقول؟ قال: واهلل إن لقوله‬ ‫ِْ‬ ‫حلالوة، [وإن عليه لطالوة] وإن أصله لعذق، وإن فَـْرعه جلَنَاة، وما أنتم بقائلني من هذا شيئًا إال عرف‬ ‫َ‬ ‫ََ‬ ‫أنه باطل، وإن أقرب القول فيه ألن تقولوا: ساحر. جاء بقول هو سحر، يفرق به بني املرء وأبيه، وبني‬ ‫املرء وأخيه، وبني املرء وزوجته، وبني املرء وعشريته، فتفرقوا عنه بذلك.‬
  • 10. ‫‪ ‬ومن األساليب اليت اختذهتا قريش جملاهبة الدعوة:‬ ‫1- السخرية والتحقري، واالستهزاء والتكذيب والتضحيك‬ ‫2-إثارة الشبهات وتكثيف الدعايات ال‬ ‫3-احليلولة بني الناس وبني مساعهم القرآن، ومعارضته بأساطري األولني‬ ‫‪ ‬تعرض رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم لألذى من عمرو بن هشام ( أبو جهل)، كان هذا سببا يف دخول‬ ‫و‬ ‫محزة بن عبد املطلب يف اإلسالم وهو عم الرسول صلى اهلل عليه وسلم.‬ ‫‪ ‬وخالل هذا اجلو امللبد بغيوم الظلم والعدوان أضاء برق آخر أشد بريقا وإضاءة من األول، أال وهو إسالم‬ ‫ً‬ ‫عمر بن اخلطاب، أسلم يف ذى احلجـة سـنة سـت مـن النبـوة. بعد ثالثة أيام من إسالم محزة رضي اهلل عنه‬ ‫كان النيب صلى اهلل عليه وسلم قد دعا اهلل تعاىل إلسالمه. فقد ج الرتمذى عن ابن عمر، وصححه،‬ ‫أخر‬ ‫و‬ ‫و ج الطرباين عن ابن مسعود وأنس أن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال: (اهلل م أعز اإلسالم بأحب‬ ‫أخر‬ ‫الرجلني إليك: بعمر بن اخلطاب أو بأيب جهل بن هشام) فكان أحبهما إىل اهلل عمر رضي اهلل عنه.‬
  • 11. ‫بعد إسالم محزة و عمر، ج املسلمون يف صفني من دار األرقم بن أيب األرقم إىل‬ ‫خر‬ ‫‪‬‬ ‫الكعبة، فكان إلسالم هذان الرجلني بالغ األثر يف نفوس املسلمني.‬ ‫كان ابن مسعود رضي اهلل عنه يقول: ما كنا نقدر أن نصلى عند الكعبة حىت أسلم‬ ‫و‬ ‫‪‬‬ ‫عمر.‬ ‫تعرض رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم و املسلمون و آل هاشم إىل مقاطعة قريش‬ ‫‪‬‬ ‫هلم، فاتفق قادة قريش على حماصرهتم يف شعب ايب طالب يف مكة على ان ال‬ ‫بتاجرو معهم وال يبيعوهم وال يشرتو منهم وال يزوجوهم وال يتزوجو منهم ، كتبوها‬ ‫و‬ ‫يف وثيقة علقت داخل الكعبة.‬ ‫استمرت املقاطعة 3 سنوات، تويف خالهلا سيدتنا خدجية بنت خويلد و أبو طالب‬ ‫‪‬‬ ‫فحزن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كثريا ومسي هذا العام بعام احلزن.‬
  • 12. ‫يف شوال سنة عشر من النبوة [يف أواخر مايو أو أوائل يونيو سنة 916 م] ج النيب صلى اهلل عليه وسلم إىل‬ ‫خر‬ ‫‪‬‬ ‫الطائف، وهي تبعد عن مكة حنو ستني ميال، سارها ماشيًا على قدميه جيئة وذهوبًا، ومعه مواله زيد بن حارثة، كان‬ ‫و‬ ‫ً‬ ‫كلما مر على قبيلة يف الطريق دعاهم إىل اإلسالم، فلم جتب إليه واحدة منها.‬ ‫ورجع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف طريق مكة بعد خروجه من احلائط كئيبًا حمزونًا كسري القلب، فلما بلغ قرن‬ ‫املنازل بعث اهلل إليه جربيل ومعه ملك اجلبال، يستأمره أن يطبق األخشبني على أهل مكة.‬ ‫وقد روى البخاري تفصيل القصة ـ بسنده ـ عن عروة بن الزبري، أن عائشة رضي اهلل عنها حدثته أهنا قالت للنىب صلى‬ ‫ِ‬ ‫اهلل عليه وسلم: هل أتى عليك يوم كان أشد عليك من يوم أحد؟ قال: (لقيت من قومك ما لقيت، كان أشد ما‬ ‫و‬ ‫لقيت منهم يوم العقبة، إذ عرضت نفسي على ابن عبد يالِيل بن عبد كالَل، فلم جيبين إىل ما أردت، فانطلقت ـ وأنا‬ ‫ُ‬ ‫َِ‬ ‫َِ‬ ‫مهموم ـ على وجهي، فلم أستفق إال وأنا بق ْرن الثعالب ـ وهو املسمى بق ْرن املنازل ـ فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد‬ ‫أظلتين، فنظرت فإذا فيها جربيل، فناداين، فقال: إن اهلل قد مسع قول قومك لك، وما ردوا عليك، وقد بعث اهلل إليك‬ ‫ملك اجلبال لتأمره مبا شئت فيهم. فناداين ملك اجلبال، فسلم علي مث قال: يا حممد، ذلك، فما شئت، إن شئت أن‬ ‫أطبق عليهم األخشبني ـ أي لفعلت، واألخشبان: مها جبال مكة: ّأبو قُـبـيس والذي يقابله، وهو قُـعي ِ‬ ‫َْقعان ـ قال النيب‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫صلى اهلل عليه وسلم: بل أرجو أن ج اهلل عز وجل من أصالهبم من يعبد اهلل عز وجل وحده ال يشرك به شيئا).‬ ‫خير‬
  • 13. ‫يف ذى القعدة سنة عشر من النبوة ـ يف أواخر يونيو أو أوائل يوليو سنة 916 م ـ عاد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬ ‫‪‬‬ ‫إىل مكة؛ ليستأنف عرض اإلسالم على القبائل واألفراد، والقرتاب املوسم كان الناس يأتون إىل مكة رجاال، وعلى كل‬ ‫ضامر يأتني من كل فج عميق ألداء فريضة احلج، وليشهدوا منافع هلم، ويذكروا اسم اهلل يف أيام معلومات، فانتهز‬ ‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم هذه الفرصة، فأتاهم قبيلة قبيلة يعرض عليهم اإلسالم ويدعوهم إليه ، كما كان‬ ‫يدعوهم منذ السنة الرابعة من النبوة ، وقد بدأ يطلب منهم من هذه السنة ـ العاشرة ـ أن يؤووه وينصروه وْينعوه حىت‬ ‫يبلغ ما بعثه اهلل به.‬ ‫القبائل اليت عرض عليها اإلسالم‬ ‫قال الزهرى: كان ممن يسمى لنا من القبائل الذين أتاهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم، ودعاهم وعرض نفسه‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫َ ََ‬ ‫َْ ََ ُ ِ‬ ‫عليهم: بنو عامر بن صعصعة، وحمَارب بن خصفة، وفزارة، وغسان، ومرة، وحنيفة، وسليم، وعْبس، وبنو نصر، وبنو‬ ‫البَكاء، كندة، كلب، واحلارث بن كعب، وعذرة، واحلضارمة، فلم يستجب منهم أحد.‬ ‫َُْ‬ ‫و‬ ‫َّ و‬ ‫وهذه القبائل اليت مساها الزهرى مل يكن عرض اإلسالم عليها يف سنة واحدة وال يف موسم واحد، بل إمنا كان ما بني‬ ‫السنة الرابعة من النبوة إىل آخر موسم قبل اهلجرة. وال ْيكن تسمية سنة معينة لعرض اإلسالم على قبيلة معينة، ولكن‬ ‫األكثر كان يف السنة العاشرة.‬
  • 14. ‫ويف موسم احلج من سنة 11 من النبوة ـ يوليو سنة 026م ـ وجدت الدعوة اإلسالمية بذورا صاحلة، سرعان ما حتولت إىل شجرات‬ ‫ً‬ ‫‪‬‬ ‫باسقات، اتقى املسلمون يف ظالهلا الوارفة لفحات الظلم والعدوان حىت تغري جمرى األحداث وحتول خط التاريخ.‬ ‫كان من حكمته صلى اهلل عليه وسلم إزاء ما كان يلقى من أهل مكة من التكذيب والصد عن سبيل اهلل أنه كان ج إىل القبائل يف ظالم‬ ‫خير‬ ‫و‬ ‫الليل، حىت ال حيول بينه وبينهم أحد من أهل مكة كني.‬ ‫املشر‬ ‫ج ليلة ومعه أبو بكر وعلى، فمر على منازل ذُهل وشيبان بن ثعلبة ، كلمهم يف اإلسالم. وقد دارت بني أيب بكر وبني رجل من ذهل‬ ‫و‬ ‫ْ‬ ‫فخر‬ ‫أسئلة وردود طريفة، وأجاب بنو شيبان بأرجى األجوبة، غري أهنم توقفوا يف قبول اإلسالم.‬ ‫مث مر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بعقبة مىن، فسمع أصوات رجال يتكلمون فعمدهم حىت حلقهم، كانوا ستة نفر من شباب يثرب‬ ‫و‬ ‫كلهم من ج، وهم:‬ ‫اخلزر‬ ‫1 ـ أسعد بن زرارة [من بين النجار].‬ ‫َُ‬ ‫2 ـ عوف بن احلارث بن رفاعة ابن عفراء [من بين النجار].‬ ‫َْ‬ ‫3 ـ رافع بن مالك بن العجالن [من بين زريْق].‬ ‫َُ‬ ‫َْ‬ ‫4 ـ قُطْبَة بن عامر بن حديدة [من بين سلمة].‬ ‫5 ـ عقبَة بن عامر بن نايب [من بين حرام بن كعب ].‬ ‫ََ‬ ‫ُْ‬ ‫ِ‬ ‫6 ـ جابر بن عبد اهلل بن رئاب [من بين عبيد بن غنْم ].‬ ‫َ‬ ‫كان من سعادة أهل يثرب أهنم كانوا يسمعون من حلفائهم من يهود املدينة، إذا كان بينهم شيء، أن نبيًا من األنبياء مبعوث يف هذا‬ ‫و‬ ‫ج، فنتبعه، ونقتلكم معه قتل عاد وإرم.‬ ‫الزمان سيخر‬
  • 15. ‫فلما حلقهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال هلم: (من أنتم؟) قالوا: نفر من ج، قال: (من مواىل‬ ‫اخلزر‬ ‫‪‬‬ ‫اليهود؟) أي حلفائهم، قالوا: نعم. قال: (أفال جتلسون أكلمكم؟) قالوا: بلى، فجلسوا معه، ح هلم‬ ‫فشر‬ ‫حقيقة اإلسالم ودعوته، ودعاهم إىل اهلل عز وجل، وتال عليهم القرآن. فقال بعضهم لبعض: تعلمون واهلل‬ ‫يا قوم، إنه للنىب الذي توعدكم به يهود، فال تسبقنكم إليه، فأسرعوا إىل إجابة دعوته، وأسلموا.‬ ‫كانوا من عقالء يثرب، أهنكتهم احلرب األهلية اليت مضت قريبًا، واليت ال يزال هليبها مستعرا، فأملوا أن‬ ‫ً‬ ‫و‬ ‫تكون دعوته سببًا لوضع احلرب، فقالوا: إنا قد كنا قومنا وال قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم، فعسى‬ ‫تر‬ ‫أن جيمعهم اهلل بك، فسنقدم عليهم، فندعوهم إىل أمرك، ونعرض عليهم الذي أجبناك إليه من هذا الدين ،‬ ‫فإن جيمعهم اهلل عليك فال رجل أعز منك.‬ ‫وملا رجع هؤالء إىل املدينة محلوا إليها رسالة اإلسالم، حىت مل تبق دار من دور األنصار إال وفيه ذكر رسول‬ ‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم.‬ ‫ويف شوال من هذه السنة ـ سنة 11 من النبوة ـ تزوج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عائشة الصديقة رضي‬ ‫اهلل عنها وهي بنت ست سنني وبين هبا باملدينة يف شوال يف السنة األوىل من اهلجرة وهي بنت تسع سنني.‬
  • 16. ‫قال ابن القيم: أسرى برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم جبسده على الصحيح من املسجد احلرام إىل بيت املقدس، راكبًا على البُـراق، صحبة جربيل عليهما‬ ‫َ‬ ‫‪‬‬ ‫الصالة والسالم، فنزل هناك، وصلى باألنبياء إماما، وربط الرباق حبلقة باب املسجد.‬ ‫ً‬ ‫مث ج به تلك الليلة من بيت املقدس إىل السماء الدنيا، فاستفتح له جربيل ففتح له، فرأي هنالك آدم أبا البشر، فسلم عليه، فرحب به ورد عليه السالم، وأقر‬ ‫عر‬ ‫بنبوته، وأراه اهلل أرواح السعداء عن ْيينه، وأرواح األشقياء عن يساره.‬ ‫مث ج به إىل السماء الثانية، فاستفتح له، فرأي فيها حيىي بن كريا وعيسى ابن مرمي، فلقيهما وسلم عليهما، فردا عليه ورحبا به، وأقرا بنبوته.‬ ‫ّ‬ ‫ز‬ ‫عر‬ ‫مث ج به إىل السماء الثالثة، فرأي فيها يوسف، فسلم عليه فرد عليه ورحب به، وأقر بنبوته.‬‫عر‬ ‫مث ج به إىل السماء الرابعة، فرأي فيها إدريس، فسلم عليه، فرد عليه، ورحب به، وأقر بنبوته.‬ ‫عر‬ ‫مث ج به إىل السماء اخلامسة، فرأي فيها هارون بن عمران، فسلم عليه، فرد عليه ورحب به، وأقر بنبوته.‬ ‫عر‬ ‫مث ج به إىل السماء السادسة، فلقى فيها موسى بن عمران، فسلم عليه، فرد عليه ورحب به، وأقر بنبوته.‬ ‫عر‬ ‫فلما جاوزه بكى موسى، فقيل له: ما يبكيك ؟ فقال: أبكى؛ ألن غالما بعث من بعدى يدخل اجلنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمىت.‬ ‫ً‬ ‫مث ج به إىل السماء السابعة، فلقى فيها إبراهيم عليه السالم، فسلم عليه، فرد عليه، ورحب به، وأقر بنبوته.‬ ‫عر‬ ‫مث رفع إىل سدرة املنتهى، فإذا نَـْبـقها مثل قِالَل هجر، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة، مث غشيها فراش من ذهب، ونور وألوان، فتغريت، فما أحد من خلق اهلل‬ ‫ََ‬ ‫ُ‬ ‫يستطيع أن يصفها من حسنها. مث رفع له البيت املعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك مث ال يعودون. مث أدخل اجلنة، فإذا فيها حبائل اللؤلؤ، وإذا‬ ‫َِ‬ ‫تراهبا املسك. ج به حىت ظهر ملستوى يسمع فيه صريف األقالم.‬ ‫وعر‬ ‫مث ج به إىل اجلبّار جل جالله، فدنا منه حىت كان قاب قوسني أو أدىن، فأوحى إىل عبده ما أوحى، وفرض عليه مخسني صالة، فرجع حىت مر على موسى‬ ‫ّ‬ ‫عر‬ ‫فقال له: مب أمرك ربك؟ قال: [خبمسني صالة]. قال: إن أمتك ال تطيق ذلك، ارجع إىل ربك فاسأله التخفيف ألمتك، فالتفت إىل جربيل، كأنه يستشريه يف‬ ‫ذلك، فأشار: أن نعم إن شئت، فعال به جربيل حىت أتى به اجلبار تبارك وتعاىل، وهو يف مكانه ـ هذا لفظ البخاري يف بعض الطرق ـ فوضع عنه عشرا، مث أنزل‬ ‫ً‬ ‫حىت مر مبوسى، فأخربه، فقال: ارجع إىل ربك فاسأله التخفيف، فلم يزل يرتدد بني موسى وبني اهلل عز وجل، حىت جعلها مخسا، فأمره موسى بالرجوع وسؤال‬ ‫ً‬ ‫التخفيف، فقال: [قد استحييت من ريب، ولكين أرضى وأسلم]، فلما بعد نادى مناد: قد أمضيت فريضىت وخففت عن عبادى‬
  • 17. ‫كان من جراء ذلك أن جاء يف املوسم التايل ـ موسم احلج سنة 21 من النبوة، يوليو سنة 126م ـ اثنا عشر رجال، فيهم مخسة من الستة الذين كانوا قد‬ ‫ً‬ ‫و‬ ‫‪‬‬ ‫ِ‬ ‫التقوا برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف العام السابق ـ والسادس الذي مل حيضر هو جابر بن عبد اهلل بن رئاب ـ وسبعة سواهم، وهم:‬ ‫1 ـ معاذ بن احلارث، ابن عفراء من بين النجار [من ج]‬ ‫اخلزر‬ ‫2 ـ ذَكوان بن عبد القيس من بين زريْق. [من ج]‬ ‫اخلزر‬ ‫َُ‬ ‫َْ‬ ‫3 ـ عبادة بن الصامت من بين غْنم [من ج]‬ ‫اخلزر‬ ‫َ‬ ‫4 ـ يزيد بن ثعلبة من حلفاء بين غنم [من ج]‬ ‫اخلزر‬ ‫5 ـ العباس بن عبَادة بن نَضلَة من بين سامل [من ج]‬ ‫اخلزر‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫6 ـ أبو اهلَْيثَم بن التَّـيَّـهان من بين عبد األشهل [من األوس].‬ ‫َ‬ ‫7 ـ عومي بن ساعدة من بين عمرو بن عوف [من األوس].‬ ‫َْ‬ ‫َُْ‬ ‫األخريان من األوس، والبقية كلهم من ج.‬ ‫اخلزر‬ ‫التقى هؤالء برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عند العقبة مبىن فبايعوه بيعة النساء، أي وفق بيعتهن اليت نزلت بعد احلديبية.‬ ‫روى البخاري عن عبادة بن الصامت أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال: [تعالوا بايعوين على أال كوا باهلل شيئًا، وال تسرقوا، وال تزنوا، وال تقتلوا‬ ‫تشر‬ ‫أوالدكم، وال تأتوا ببهتان تفرتونه بني أيديكم وأرجلكم، وال تعصوين يف معروف، فمن ويف منكم فأجره على اهلل ، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به‬ ‫يف الدنيا، فهو له كفارة، ومن أصاب من ذلك شيئًا فسرته اهلل ، فأمـره إىل اهلل ؛ إن شاء عاقبه، وإن شاء عفا عـنه]. قــال: فبايعته ـ ويف نسخة: فبايعناه ـ‬ ‫على ذلك.‬ ‫سفري اإلسالم يف املدينة‬ ‫وبعد أن متت البيعة وانتهى املوسم بعث النيب صلى اهلل عليه وسلم مع هؤالء املبايعني أول سفري يف يثرب؛ ليعلم املسلمني فيها شرائع اإلسالم، ويفقههم‬ ‫يف الدين، وليقوم بنشر اإلسالم بني الذين مل يزالوا على الشرك، واختار هلذه السفارة شابًا من شباب اإلسالم من السابقني األولني، وهو مصعب بن‬ ‫ُ َْ‬ ‫عمري العبدرى رضي اهلل عنه.‬ ‫َُْ‬
  • 18. ‫بيعة العقبة الثانية‬ ‫‪‬‬ ‫يف موسم احلج يف السنة الثالثة عشرة من النبوة ـ يونيو سنة 226م ـ حضر ألداء مناسك احلج بضع وسبعون نفسا من‬ ‫ً‬ ‫املسلمني من أهل يثرب،جاءوا ضمن حجاج قومهم من كني، وقد تساءل هؤالء املسلمون فيما بينهم ـ وهم مل يزالوا يف‬ ‫املشر‬ ‫يثرب أو كانوا يف الطريق: حىت مىت نرتك رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يطوف ويطرد يف جبال مكة وخياف؟‬ ‫فلما قدموا مكة جرت بينهم وبني النيب صلى اهلل عليه وسلم اتصاالت سرية أدت إىل اتفاق الفريقني على أن جيتمعوا يف‬ ‫أوسط أيام التشريق يف الشعب الذي عند العقبة حيث اجلمرة األوىل من مىن، وأن يتم االجتماع يف سرية تامة يف ظالم الليل.‬ ‫ولنرتك أحد قادة األنصار يصف لنا هذا االجتماع التارخيي الذي حول جمرى األيام يف صراع الوثنية واإلسالم. يقول كعب بن‬ ‫مالك األنصاري رضي اهلل عنه:‬ ‫خرجنا إىل احلج، وواعدنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بالعقبة من أوسط أيام التشريق، فلما فرغنا من احلج، كانت الليلة‬ ‫و‬ ‫اليت واعدنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم هلا، ومعنا عبد اهلل بن عمرو بن حرام أبو جابر، سيد من ساداتنا، وشريف من‬ ‫ََ‬ ‫أشرافنا، أخذناه معنا ـ كنا نكتم من معنا من قومنا من كني أمرنا ـ فكلمناه وقلنا له: يا أبا جابر، إنك سيد من ساداتنا،‬ ‫املشر‬ ‫و‬ ‫وشريف من أشرافنا، وإنا نرغب بك عما أنت فيه أن تكون حطبا للنار غدا. مث دعوناه إىل اإلسالم، وأخربناه مبيعاد رسول‬ ‫ً‬ ‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم إيانا العقبة، قال: فأسلم وشهد معنا العقبة كان نقيبًا.‬ ‫و‬
  • 19. ‫قال كعب: فنمنا تلك الليلة مع قومنا يف رحالنا حىت إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا مليعاد رسول اهلل‬ ‫‪‬‬ ‫صلى اهلل عليه وسلم، نتسلل تسلل القطَا، مستخفني، حىت اجتمعنا يف ِّعب عند العقبة، وحنن ثالثة‬ ‫الش ْ‬ ‫َ‬ ‫وسبعون رجال، وامرأتان من نسائنا؛ نُسْيبَة بنت كعب ـ أم عمارة ـ من بين مازن بن النجار،وأمساء بنت‬ ‫َُ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫عمرو ـ أم منيع ـ من بين سلمة.‬ ‫فاجتمعنا يف الشعب ننتظر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حىت جاءنا، ومعه عمه: العباس بن عبد املطلب‬ ‫ـ وهو يومئذ على دين قومه ـ إال أنه أحب أن حيضر أمر ابن أخيه، ويتوثق له، كان أول متكلم.‬ ‫و‬ ‫بداية احملادثة وتشريح العباس خلطورة املسئولية‬ ‫وبعد أن تكامل اجمللس بدأت احملادثات إلبرام التحالف الديىن والعسكرى، كان أول املتكلمني هو العباس‬ ‫و‬ ‫بن عبد املطلب عم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم، تكلم ح هلم ـ بكل صراحة ـ خطورة املسئولية اليت‬ ‫ليشر‬ ‫ستلقى على كواهلهم نتيجة هذا التحالف. قال:‬
  • 20. ‫يا معشر ج ـ كان العرب يسمون األنصار خزرجـًا، خزرجـها وأوسـها كليهما ـ إن حممدا منا‬ ‫ً‬ ‫اخلزر و‬ ‫‪‬‬ ‫حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه،فهو يف عز من قومه ومنعة‬ ‫يف بلده. وإنه قد أيب إال االحنياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم ترون أنكم وافون له مبا‬ ‫دعومتوه إليه، ومانعوه ممن خالفه، فأنتم وما حتملتم من ذلك. وإن كنتم ترون أنكم مسلِموه‬ ‫ُْ ُ‬ ‫وخاذلوه بعد اخلروج به إليكم فمن اآلن فدعوه. فإنه يف عز ومنعة من قومه وبلده.‬ ‫قال كعب: فقلنا له: قد مسعنا ما قلت، فتكلم يا رسول اهلل ، فخذ لنفسك ولربك ما أحببت.‬ ‫وهذا اجلواب يدل على ما كانوا عليه من عزم صميم، وشجاعة مؤمنة، وإخالص كامل يف‬ ‫حتمل هذه املسئولية العظيمة، وحتمل عواقبها اخلطرية.‬ ‫وألقى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بعد ذلك بيانه، مث متت البيعة.‬
  • 21. ‫وذهب النيب صلى اهلل عليه وسلم يف اهلاجرة ـ حني يسرتيح الناس يف بيوهتم ـ إىل أيب بكر رضي اهلل عنه ليربم معه مراحل اهلجرة، قالت عائشة رضي اهلل عنها: بينما‬ ‫‪‬‬ ‫حنن جلوس يف بيت أيب بكر يف حنر الظهرية، قال قائل أليب بكر: هذا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم متقنعا، يف ساعة مل يكن يأتينا فيها، فقال أبو بكر: فداء له‬ ‫ً‬ ‫أيب وأمى، واهلل ما جاء به يف هذه الساعة إال أمر.‬ ‫قالت: فجاء رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم. ، فاستأذن،فأذن له فدخل، فقال النيب صلى اهلل عليه وسلم أليب بكر: [ ج من عندك]. فقال أبو بكر: إمنا هم‬ ‫أخر َ ْ‬ ‫أهلك، بأيب أنت يا رسول اهلل . قال: [فأين قد أذن ىل يف اخلروج]، فقال أبو بكر: الصحبة بأيب أنت يا رسول اهلل ؟ قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم: [نعم].‬ ‫مث أبرم معه خطة اهلجرة، ورجع إىل بيته ينتظر جمىء الليل. وقد استمر يف أعماله اليومية حسب املعتاد حىت مل يشعر أحد بأنه يستعد للهجرة، أو ألي أمر آخر اتقاء‬ ‫مما قررته قريش.‬ ‫تطويق منزل الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬ ‫أما أكابر جمرمي قريش فقضوا هنارهم يف اإلعداد سرا لتنفيذ اخلطة املرسومة الىت أبرمها برملان مكة [دار الندوة] صباحا، واختري لذلك أحد عشر رئيسا من هؤالء‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫األكابر، وهم:‬ ‫1ـ أبو جهل بن هشام.‬ ‫2ـ احلَكم بن أيب العاص.‬ ‫َ‬ ‫3ـ عقبَة بن أيب معْيط.‬ ‫َُ‬ ‫ُْ‬ ‫4ـ النَّضر بن احلارث.‬ ‫ْ‬ ‫5ـ أُمية بن خلَف.‬ ‫َ‬ ‫6ـ زمعة بن األسود.‬ ‫َْ َ‬ ‫ِ‬ ‫7ـ طُعْيمة بن عدى.‬ ‫َ ّ‬ ‫َ‬ ‫8 ـ أبو هلب.‬ ‫9ـ أيب بن خلف.‬ ‫01ـ نـُبَـْيه بن احلجاج.‬ ‫11ـ أخوه منَبِّه بن احلجاج.‬ ‫ُ‬
  • 22. ‫كان من عادة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن ينام يف أوائل الليل بعد صالة العشاء، ج بعد نصف الليل إىل املسجد احلرام،‬ ‫وخير‬ ‫و‬ ‫‪‬‬ ‫يصلي فيه قيام الليل، فأمر عليًا رضي اهلل عنه تلك الليلة أن يضطجع على فراشه، ويتسجى بربده احلضرمي األخضر، وأخربه أنه ال‬ ‫يصيبه مكروه.‬ ‫فلما كانت عتمة من الليل وساد اهلدوء، ونام عامة الناس جاء املذكورون إىل بيته صلى اهلل عليه وسلم سرا، واجتمعوا على بابه‬ ‫ً‬ ‫يرصدونه، وهم يظنونه نائما حىت إذا قام ج وثبوا عليه، ونفذوا ما قرروا فيه.‬ ‫وخر‬ ‫ً‬ ‫كانوا على ثقة ويقني جازم من جناح هذه املؤامرة الدنية، حىت وقف أبو جهل وقفة الزهو واخليالء، وقال خماطبًا ألصحابه املطوقني‬ ‫و‬ ‫يف سخرية واستهزاء: إن حممدا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم، مث بعثتم من بعد موتكم، فجعلت لكم‬ ‫ً‬ ‫جنان كجنان األردن، وإن مل تفعلوا كان له فيكم ذبح، مث بعثتم من بعد موتكم، مث جعلت لكم نار حترقون فيها.‬ ‫وقد كان ميعاد تنفيذ تلك املؤامرة بعد منتصف الليل يف وقت خروجه صلى اهلل عليه وسلم من البيت، فباتوا متيقظني ينتظرون‬ ‫ساعة الصفر، ولكن اهلل غالب على أمره، بيده ملكوت السموات واألرض، يفعل ما يشاء، وهو جيري وال جيـار عليه، فقـد فعـل مـا‬ ‫خاطب به الرسول صلى اهلل عليه وسلم فيما بعد: {وإِذ َْكر بِك الَّذين كفرواْ لِيُثْبِتُوك أَو يَـقتُـلُوك أَو خيْرجوك وَْكرون وَْكر اهللُ‬ ‫ِ‬ ‫َ ْ ْ َ ْ ُ ُ َ َْي ُ ُ َ َْي ُ ُ‬ ‫ِ‬ ‫َ ْ ْي ُ ُ َ َ َ َ ُ‬ ‫واهللُ خْيـر الْماكِرين} [األنفال:03].‬ ‫َ َُ َ َِ‬ ‫الرسول صلى اهلل عليه وسلم يغادر بيته‬
  • 23. ‫ج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من باب بيته ومن بيت صفوف الكفار دون ان حيسو‬ ‫خر‬ ‫‪‬‬ ‫به، وانطلق هو وابو بكر الصديق إىل غار ثور، حيث تبعهم كون لكن عمي عليهم‬ ‫املشر‬ ‫بسبب احلمام الذي بىن عشه على باب الغار، وبيت العنكبوت.‬ ‫تابعا طريقهما إىل يثرب فلحقهما سراقة بن مالك طمعا يف مكافأة قريش ، فعرض عليه‬ ‫‪‬‬ ‫صلى اهلل عليه وسلم العودة على ان يعطى سواري كسرى (ملك الفرس يف ذلك الزمان) ،‬ ‫وما كان لسراقة ملا علم على رسولنا الكرمي من الصدق إال أن قبل وعاد.‬ ‫أقام رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بقباء أربعة أيام: االثنني والثالثاء واألربعاء واخلميس.‬ ‫‪‬‬ ‫وأسس مسجد قباء وصلى فيه، وهو أول مسجد أسس على التقوى بعد النبوة، فلما كان‬ ‫اليوم اخلامس ـ يوم اجلمعة ـ كب بأمر اهلل له، وأبو بكر ردفه، وأرسل إىل بين النجار ـ‬ ‫ر‬ ‫أخواله ـ فجاءوا متقلدين سيوفهم، فسار حنو املدينة وهم حوله، و كته اجلمعة يف بين سامل‬ ‫أدر‬ ‫بن عوف، فجمع هبم يف املسجد الذي يف بطن الوادى، كانوا مائة رجل.‬ ‫و‬
  • 24. ‫مث سار النيب صلى اهلل عليه وسلم بعد اجلمعة حىت دخل املدينة ـ ومن ذلك اليوم‬ ‫‪‬‬ ‫مسيت بلدة يثرب مبدينة الرسول صلى اهلل عليه وسلم، ويعرب عنها باملدينة خمتصرا ـ‬ ‫ً‬ ‫كان يوما مشهودا أغر، فقد ارجتت البيوت والسكك بأصوات احلمد والتسبيح،‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫و‬ ‫وتغنت بنات األنصار بغاية ح والسرور:‬ ‫الفر‬ ‫طـلـع الـبــدر علـينا **مـن ثـنيــات الـوداع‬ ‫وجـب الشـكـر علـينا ** م ــا دعــا لـلـه داع‬ ‫أيـهـا املبـعـوث فـينا ** جـئـت بـاألمـر املطاع‬
  • 25. ‫‪ ‬كان أول ما قام به صصلى اهلل عليه وسلم يف املدينة :‬ ‫1- أخى بني املهاجرين واألنصار.‬ ‫2- بناء املسجد النبوي.‬ ‫3-ابرام معاهدة الدفاع عن املدينة مع اليهود.‬ ‫‪ْ ‬يكن تقسيم العهد املدين إىل ثالث مراحل:‬ ‫1 ـ مرحلة تأسيس اجملتمع اإلسالمي، ومتكني الدعوة اإلسالمية، وقد أثريت يف هذه املرحلة القالقل‬ ‫والفنت من الداخل، وزحف فيها األعداء من ج؛ ليستأصلوا شأفة املسلمني، ويقلعوا الدعوة من‬ ‫اخلار‬ ‫جذورها. وقد انتهت هذه املرحلة بتغلب املسلمني وسيطرهتم على املوقف مع عقد صلح احلديبية‬ ‫يف ذى القعدة سنة ست من اهلجرة.‬ ‫2 ـ مرحلة الصلح مع العدو األكرب، والفراغ لدعوة ملوك األرض إىل اإلسالم، وللقضاء على‬ ‫أطراف املؤامرات. وقد انتهت هذه املرحلة بفتح مكة املكرمة يف رمضان سنة مثان من اهلجرة.‬ ‫3 ـ مرحلة استقبال الوفود، ودخول الناس يف دين اهلل أفواجا. وقد امتدت هذه املرحلة إىل وفاة‬ ‫ً‬ ‫الرسول صلى اهلل عليه وسلم يف ربيع األول سنة إحدى عشرة من اهلجرة.‬
  • 26. ‫وقعت يف السنة الثانية هلجرة، عندما علم املسلمون بوجود قافلة جتارية لقريش عائدة‬ ‫‪‬‬ ‫من الشام، فخرجو لإلستيالء عليها ، إال ان ابا سفيان غري ريقها وارسل اىل قريش‬ ‫لتحذيرهم فخرجو اليه ب 059 مقاتل.‬ ‫التقى اجلمعان عند ابار بدر يف منطقة قريبة من املدينة املنورة.‬ ‫‪‬‬ ‫كانت نتائج كة استشهاد 41 رجال من املسلمني لقاء نقتل 07 من كني و‬ ‫املشر‬ ‫املعر‬ ‫‪‬‬ ‫اسر 07 اخرين.‬ ‫كان يهود بين قينقاع خانو معاهدهتم فامر الرسول صلى اهلل عليه وسلم باجالئهم‬ ‫‪‬‬ ‫عن املدينة.‬
  • 27. ‫وقعت يف السنة الثالثة للهجرة، عندما أراد كوا قريش ان يثأروا هلزْيتهم يف بدر، فجمعو 0003‬ ‫مشر‬ ‫‪‬‬ ‫مقاتل واجتهو غلى املدينة ، اليت مجعت 0001 مقاتل وخرجوا ملالقاة كني يف جبل أحد.‬ ‫املشر‬ ‫كانت كة أجزاء‬ ‫للمعر‬ ‫‪‬‬ ‫فجزئها األول هو االنتصار اجلزئي للمسلمني.‬ ‫‪‬‬ ‫اما جزئها الثاين فهو عصيان الرماة ألوامر رسول اهلل ونزوهلم عن اجلبل االمر الذي مكن خالد بن‬ ‫‪‬‬ ‫الوليد من اإللتفات على جيش املسلمني و تشتيته.‬ ‫اجلزء الثالث هو دعوة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كني اىل موقعة محراء األسد لتحديد‬ ‫املشر‬ ‫‪‬‬ ‫الفائز، كان من عادات الفائز ان خييم مبكان كة ثالثة ايام و هذا ما مل يفعله كون.‬ ‫املشر‬ ‫املعر‬ ‫و‬ ‫استشهاد كل من محزة بن عبداملطلب و مصعب بن عمري.‬ ‫‪‬‬ ‫اجالء يهود بين النضري.‬ ‫‪‬‬
  • 28. ‫وقعت يف السنة اخلامسة للهجرة، كان سببها هو رغبة كني يف اجلزيرة العربية‬ ‫املشر‬ ‫و‬ ‫‪‬‬ ‫بإهناء املسلمني و دولتهم ، فاجتمعت األحزاب و مجعوا 00001 مقاتل وقدمو‬ ‫للمدينة، فتفاجئو باخلندق الذي حفر حوهلا مبشورة سلمان الفارسي.‬ ‫حماولة العبور من كني، واملكافحة املتواصلة من املسلمني، دامت أياماً، إال أن‬ ‫املشر‬ ‫‪‬‬ ‫اخلندق ملا كان حائالً بني اجليشني مل جير بينهما قتال مباشر أو حرب دامية، بل‬ ‫اقتصروا على املراماة واملناضلة.‬ ‫فشلت كل حماوالت اخرتاق اخلندق من جهة املشكرين.‬ ‫‪‬‬ ‫ارسل اهلل تعاىل عليهم رحيا صرصرا قلبت قدورهم وخيامهم فرجعوا مهزومني.‬ ‫‪‬‬ ‫قتل كل رجال يهود بين قريظة خليانتهم العهد ومساعدة العدو على دخول املدينة.‬ ‫‪‬‬
  • 29. ‫وملا تطورت الظروف يف اجلزيزة العربية إىل حد كبري لصاحل املسلمني، أخذت طالئع الفتح األعظم وجناح الدعوة اإلسالمية تبدو شيئاً‬ ‫‪‬‬ ‫فشيئاً، وبدأت التمهيدات إلقرار حق املسلمني يف أداء عبادهتم يف املسجد احلرام، الذي كان قد صد عنه كون منذ ستة أعوام.‬ ‫املشر‬ ‫أري رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف املنام، وهو باملدينة، أنه دخل هو وأصحابه املسجد احلرام، وأخذ مفتاح الكعبة، وطافوا‬ ‫واعتمروا، وحلق بعضهم وقصر بعضهم، فأخرب بذلك أصحابه ففرحوا، وحسبوا أهنم داخلو مكة عامهم ذلك، وأخرب أصحابه أنه‬ ‫معتمر فتجهزوا للسفر.‬ ‫استنفار املسلمني‬ ‫واستنفر العرب ومن حوله من أهل البوادي ليخرجوا معه، فأبطأ كثري من األعراب، أما هو فغسل ثيابه، كب ناقته القصواء،‬ ‫َ ْ‬ ‫ور‬ ‫واستخلف على املدينة ابن أم مكتوم أو منَْيـلَة الليثي. ج منها يوم اإلثنني غرة ذي القعدة سنة 6 هـ، ومعه زوجته أم سلمة، يف ألف‬ ‫وخر‬ ‫ُ‬ ‫وأربعمائة، ويقال: ألف ومخسمائة، ومل ج معه بسالح، إال سالح املسافر: السيوف يف القرب.‬ ‫ُُ‬ ‫خير‬ ‫املسلمون كون إىل مكة‬ ‫يتحر‬ ‫وحترك يف اجتاه مكة، فلما كان بذي احلُلَيْـفة قَـلَّد اهلدي وأشعره، وأحرم بالعمرة؛ ليأمن الناس من حربه، وبعث بني يديه عيناً له من‬ ‫ْ ََ‬ ‫َ‬ ‫خزاعة خيربه عن قريش، حىت إذا كان قريباً من عسفان أتاه عينه، فقال: إين كت كعب بن لؤي قد مجعوا لك األحابيش ، ومجعوا لك‬ ‫تر‬ ‫ُ َْ‬ ‫مجوعاً، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت، واستشار النيب صلى اهلل عليه وسلم أصحابه، وقال: (أترون منيل إىل ذراري هؤالء الذين‬ ‫أعانوهم فنصيبهم؟ فإن قعدوا قعدوا موتورين حمزونني، وإن جنوا يكن عنق قطعها اهلل، أم تريدون أن نؤم هذا البيت فمن صدنا عنه‬ ‫قاتلناه؟) فقال أبو بكر: اهلل ورسوله أعلم، إمنا جئنا معتمرين، ومل جنئ لقتال أحد، ولكن من حال بيننا وبني البيت قاتلناه، فقال النيب‬ ‫صلى اهلل عليه وسلم: (فروحوا)، فراحوا.‬
  • 30. ‫حماولة قريش صد املسلمني عن البيت‬ ‫‪‬‬ ‫كانت قريش ملا مسعت خبروج النيب صلى اهلل عليه وسلم عقدت جملساً استشارياً قررت فيه صد املسلمني عن البيت كيفما ْيكن، فبعد أن أعرض رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬ ‫و‬ ‫ِ‬ ‫عن األحابيش، نقل إليه رجل من بين كعب أن قريشاً نازلة بذي طُوي، وأن مائيت فارس يف قيادة خالد بن الوليد مرابطة بكراع الغَميم يف الطريق الرئيسي الذي يوصل إىل مكة.‬ ‫َُ‬ ‫َ‬ ‫وقد حاول خالد صد املسلمني، فقام بفرسانه إزاءهم يرتاءي اجليشان. ورأي خالد املسلمني يف صالة الظهر كعون ويسجدون، فقال: لقد كانوا على غرة، لو كنا محلنا عليهم‬ ‫ير‬ ‫ألصبنا منهم، مث قرر أن ْييل على املسلمني ـ وهم يف صالة العصر ـ ميلة واحدة، ولكن اهلل أنزل حكم صالة اخلوف، ففاتت الفرصة خالداً.‬ ‫تبديل الطريق وحماولة اجتناب اللقاء الدامي‬ ‫وأخذ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم طريقاً وعرا بني شعاب، وسلك هبم ذات اليمني بني ظهري احلَمض يف طريق خترجه على ثنية املرار مهبط احلديبية من أسفل مكة، وترك‬ ‫َُ‬ ‫ْ‬ ‫َ ًْ‬ ‫الطريق الرئيسي الذي يفضي إىل احلرم ماراً بالتنعيم، كه إىل اليسار، فلما رأي خالد قَـتَـرة اجليش اإلسالمي قد خالفوا عن طريقه انطلق كض نذيراً لقريش.‬ ‫ير‬ ‫َ‬ ‫تر‬ ‫وسار رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حىت إذا كان بثنية املرار كت راحلته، فقال الناس: حل حل، فأحلَّت ، فقالوا: خألت القصواء، فقال النيب صلى اهلل عليه وسلم: (ما خألت‬ ‫َْ َْ َ ْ‬ ‫بر‬ ‫القصواء، وما ذاك هلا خبلق، ولكن حبسها حابس الفيل)، مث قال: (والذي نفسي بيده ال يسألوين خطة يعظمون فيها حرمات اهلل إال أعطيتهم إياها)، مث زجرها فوثبت به، فعدل‬ ‫حىت نزل بأقصي احلديبية، على ََد قليل املاء، إمنا يتربضه الناس تربضاً، فلم يلبث أن نزحوه. فشكوا إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم العطش، ع سهماً من كنانته، مث أمرهم‬ ‫فانتز‬ ‫مث‬ ‫أن جيعلوه فيه، فواهلل ما زال جييش هلم بالري حىت صدروا.‬ ‫بُديْل يتوسط بني رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وقريش‬‫َ‬ ‫وملا اطمأن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم جاء بديل بن ورقَاء اخلزاعي يف نفر من خزاعة، كانت خزاعة عْيبَة نُصح لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من أهل تُهامة، فقال: إين‬ ‫ـَ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫و‬ ‫َْ‬ ‫كت كعب ابن لؤي، نزلوا أعداد مياه احلديبية، معهم العُوذ املطَافِيل ، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم: (إنا مل جنئ لقتال أحد، ولكنا جئنا‬ ‫َ‬ ‫تر‬ ‫معتمرين، وإن قريشاً قد هنكتهم احلرب وأضرت هبم، فإن شاءوا ماددهتم، وخيلوا بيين وبني الناس، وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإال فقد مجُّوا ، وإن هم أبوا‬ ‫َ‬ ‫إال القتال فوالذي نفسي بيده ألقاتلنهم على أمري هذا حىت تنفرد سالفيت، أو لينفذن اهلل أمره).‬ ‫قال بديل: سأبلغهم ما تقول، فانطلق حىت أيت قريشاً، فقال: إين قد جئتكم من عند هذا الرجل، ومسعته يقول قوال، فإن شئتم عرضته عليكم.‬ ‫ِ‬ ‫فقال سفهاؤهم: ال حاجة لنا أن حتدثنا عنه بشيء. وقال ذوو الرأي منهم: هات ما مسعته. قال: مسعته يقول كذا كذا، فبعثت قريش م ْرز بن حفص، فلما رآه رسول اهلل صلى‬ ‫كَ‬ ‫و‬ ‫اهلل عليه وسلم قال: هذا رجل غادر، فلما جاء وتكلم قال له مثل ما قال لبديل وأصحابه، فرجع إىل قريش وأخربهم.‬
  • 31. ‫بُديْل يتوسط بني رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وقريش‬ ‫َ‬ ‫‪‬‬ ‫وملا اطمأن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم جاء بديل بن ورقَاء اخلزاعي يف نفر من خزاعة، كانت خزاعة‬ ‫و‬ ‫َْ‬ ‫عْيبَة نُصح لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من أهل تُـهامة، فقال: إين كت كعب ابن لؤي، نزلوا أعداد‬ ‫تر‬ ‫ََ‬ ‫َ ْ‬ ‫يل ، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت. قال رسول اهلل صلى اهلل عليه‬ ‫مياه احلديبية، معهم العوذ املطَافِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫وسلم: (إنا مل جنئ لقتال أحد، ولكنا جئنا معتمرين، وإن قريشاً قد هنكتهم احلرب وأضرت هبم، فإن شاءوا‬ ‫ماددهتم، وخيلوا بيين وبني الناس، وإن شاءوا أن يدخلوا فيما دخل فيه الناس فعلوا، وإال فقد مجُّوا ، وإن هم‬ ‫َ‬ ‫أبوا إال القتال فوالذي نفسي بيده ألقاتلنهم على أمري هذا حىت تنفرد سالفيت، أو لينفذن اهلل أمره).‬ ‫قال بديل: سأبلغهم ما تقول، فانطلق حىت أيت قريشاً، فقال: إين قد جئتكم من عند هذا الرجل، ومسعته‬ ‫يقول قوال، فإن شئتم عرضته عليكم.‬ ‫فقال سفهاؤهم: ال حاجة لنا أن حتدثنا عنه بشيء. وقال ذوو الرأي منهم: هات ما مسعته. قال: مسعته‬ ‫ِ‬ ‫يقول كذا كذا، فبعثت قريش م ْرز بن حفص، فلما رآه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال: هذا رجل‬ ‫كَ‬ ‫و‬ ‫غادر، فلما جاء وتكلم قال له مثل ما قال لبديل وأصحابه، فرجع إىل قريش وأخربهم.‬
  • 32. ‫رسل قريش‬ ‫‪‬‬ ‫مث قال رجل من كنانة ـ امسه احلُلَْيس بن علقمة: دعوين آته. فقالوا: ائته، فلما أشرف على النيب صلى اهلل عليه وسلم وأصحابه قال‬ ‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم: (هذا فالن، وهو من قوم يعظمون البدن، فابعثوها)، فبعثوها له، واستقبله القوم يلبون، فلما رأي‬ ‫ذلك. قال: سبحان اهلل ما ينبغي هلؤالء أن يصدوا عن البيت، فرجع إىل أصحابه، فقال: رأيت البدن قد قلدت وأشعرت، وما أري‬ ‫أن يصدوا، وجري بينه وبني قريش كالم أحفظه.‬ ‫فقال عروة بن مسعود الثقفي: إن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها، ودعوين آته، فأتاه، فجعل يكلمه، فقال له النيب صلى‬ ‫ُْ‬ ‫اهلل عليه وسلم حنواً من قوله لبديل. فقال له عروة عند ذلك: أي حممد أرأيت لو استأصلت قومك، هل مسعت بأحد من العرب‬ ‫اجتاح أهله قبلك، وإن تكن األخري فواهلل إين ال أري وجوها، وإين أري أوباشا من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك، قال له أبو بكر:‬ ‫ْ َِ‬ ‫امصص بَظْر الالت، أحنن نفر عنه؟ قال: من ذا؟ قالوا: أبو بكر، قال: أما والذي نفسي بيده لوال يد كانت عندي مل أجزك هبا‬ ‫ألجبتك. وجعل يكلم النيب صلى اهلل عليه وسلم، كلما كلمه أخذ بلحيته، واملغرية بن شعبة عند رأس النيب صلى اهلل عليه وسلم،‬ ‫و‬ ‫ومعه السيف وعليه املِغفر، فكلما أهوي عروة إىل حلية النيب صلى اهلل عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف، وقال: أخر يدك عن حلية‬ ‫َُْ‬ ‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم، فرفع عروة رأسه، وقال: من ذا؟ قالوا: املغرية بن شعبة، فقال: أي عذر، أو لست أسعي يف‬ ‫ُ‬ ‫َُ‬ ‫غدرتِك؟ كان املغرية صحب قوماً يف اجلاهلية فقتلهم وأخذ أمواهلم، مث جاء فأسلم، فقال النبـي صلى اهلل عليه وسلم: (أما اإلسالم‬ ‫َ َ‬ ‫ِ‬ ‫ََْ و‬ ‫فأقبل، وأما املال فلست منـه فـي شيء) ( كان املغرية ابن أخي عروة).‬ ‫و‬ ‫ُ‬ ‫مث إن عروة جعل يرمق أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وتعظيمهم له، فرجع إىل أصحابه، فقال: أي قوم، واهلل لقد وفدت‬ ‫على امللوك، على قيصر كسري والنجاشي، واهلل ما رأيت ملكاً يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب حممد حممداً، واهلل إن تَـنَخم‬ ‫َّ َ‬ ‫و‬ ‫خنامة إال وقعت يف كف رجل منهم، فدلك هبا وجهه وجلده، وإذا أمرهم ابتدروا أمره، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه، وإذا‬ ‫ٍْ‬ ‫ُِد‬ ‫تكلم خفضوا أصواهتم عنده، وما حي ُّون إليه النظر تعظيماً له، وقد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها.‬ ‫ُ‬
  • 33. ‫هو الذي كف أيديهم عنكم‬ ‫‪‬‬ ‫وملا رأي شباب قريش الطائشون، الطاحمون إىل احلرب، رغبة زعمائهم يف الصلح فكروا يف خطة حتول بينهم وبني‬ ‫الصلح، فقرروا أن خيرجوا ليالً، ويتسللوا إىل معسكر املسلمني، وحيدثوا أحداثاً تشعل نار احلرب، وفعالً قد قاموا بتنفيذ‬ ‫هذا القرار، فقد ج سبعون أو مثانون منهم ليالً فهبطوا من جبل التنعيم، وحاولوا التسلل إىل معسكر املسلمني، غري‬ ‫خر‬ ‫أن حممد بن مسلمة قائد احلرس اعتقلهم مجيعاً.‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ورغبة ف ــي الصلــح أطلـق سراحهم النيب صلى اهلل عليه وسلم وعفا عنـهم، ويف ذلك أنزل اهلل: {وهو الَّذي كف أَيْديـَهم‬ ‫َ َّ ُ ْ‬ ‫َ َُ‬ ‫ِ َ َّ ِ ْ ِ ْ َ رُ َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫عنكم وأَيْديَكم عْنـهم بِبَطْن مكةَ من بـَعد أَن أَظْفكم علَْيهم} [الفتح: 42]‬ ‫ْ‬ ‫َْ‬ ‫َ ُْ َ ُْ َ ُ‬ ‫عثمان بن عفان سفرياً إىل قريش‬ ‫وحينئذ أراد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن يبعث سفرياً كد لدي قريش موقفه وهدفه من هذا السفر، فدعا عمر‬ ‫يؤ‬ ‫بن اخلطاب لريسله إليهم، فاعتذر قائالً: يا رسول اهلل، ليس يل أحد مبكة من بين عدي بن كعب يغضب يل إن‬ ‫أوذيت، فأرسل عثمان بن عفان، فإن عشريته هبا، وإنه مبلغ ما أردت، فدعاه، وأرسله إىل قريش، وقال: أخربهم أنا مل‬ ‫نأت لقتال، وإمنا جئنا عماراً، وادعهم إىل اإلسالم، وأمره أن يأيت رجاالً مبكة مؤمنني، ونساء مؤمنات، فيبشرهم‬ ‫بالفتح، وخيربهم أن اهلل عز وجل مظهر دينه مبكة، حىت ال يستخفي فيها أحد باإلْيان.‬ ‫فانطلق عثمان حىت مر على قريش بِبَـ ْلدح، فقالوا: أين تريد؟ فقال: بعثين رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بكذا كذا،‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫قالوا: قد مسعنا ما تقول، فانفذ حلاجتك، وقام إليه أبان ابن سعيد بن العاص، فرحب به مث ج فرسه، فحمل عثمان‬ ‫أسر‬ ‫على الفرس، وأجاره وأردفه حىت جاء مكة، وبلغ الرسالة إىل زعماء قريش، فلما غ عرضوا عليه أن يطوف بالبيت،‬ ‫فر‬ ‫فرفض هذا العرض، وأيب أن يطوف حىت يطوف رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم.‬
  • 34. ‫إشاعة مقتل عثمان وبيعة الرضوان‬ ‫‪‬‬ ‫واحتبسته قريش عندها ـ ولعلهم أرادوا أن يتشاوروا فيما بينهم يف الوضع الراهن، ويربموا أمرهم، مث يردوا‬ ‫عثمان جبواب ما جاء به من الرسالة ـ وطال االحتباس، فشاع بني املسلمني أن عثمان قتل، فقال رسول اهلل‬ ‫صلى اهلل عليه وسلم ملا بلغته اإلشاعة: (ال نربح حىت نناجز القوم)، مث دعا أصحابه إىل البيعة، فثاروا إليه‬ ‫يبايعونه على أال يفروا، وبايعته مجاعة على املوت، وأول من بايعه أبو سنان األسدي، وبايعه سلمة بن‬ ‫األكوع على املوت ثالث مرات، يف أول الناس ووسطهم وآخرهم، وأخذ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬ ‫بيد نفسه وقال: (هذه عن عثمان). وملا متت البيعة جاء عثمان فبايعه، ومل يتخلف عن هذه البيعة إال رجل‬ ‫َ ُّ‬ ‫من املنافقني يقال له: جد بن قَـْيس.‬ ‫ِ‬ ‫أخذ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم هذه البيعة حتت شجرة، كان عمر آخذا بيده، ومعقل بن يَسار آخذا‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫بغصن الشجرة يرفعه عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم، وهذه هي بيعة الرضوان اليت أنزل اهلل فيها: {لَقد‬ ‫َْ‬ ‫رضي اللَّهُ عن الْمؤمنِني إِذ يـُبَايِعونَك حتْت َّجرةِ}اآلية [الفتح: 81]‬ ‫َ ِ ُ ْ َ ْ ُ َ َ َ الش َ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫إبرامَ الصلح وبنوده‬ ‫وعرفت قريش ضيق املوقف، فأسرعت إىل بعث سهْيل بن عمرو لعقد الصلح، وأكدت له أال يكون يف‬ ‫َُ‬ ‫الصلح إال أن يرجع عنا عامه هذا، ال تتحدث العرب عنا أنه دخلها علينا عنوة أبداً، فأتاه سهيل بن‬ ‫عمرو، فلما رآه قال: (قد سهل لكم كم)، أراد القوم الصلح حني بعثوا هذا الرجل، فجاء سهيل‬ ‫أمر‬ ‫فتكلم طويالً، مث اتفقا على قواعد الصلح،‬
  • 35. ‫كانت خيرب مدينة كبرية ذات حصون ومز ع على بعد مثانني ميال من املدينة يف جهة الشمال، وهي اآلن قرية يف مناخها بعض الوخامة.‬ ‫ار‬ ‫‪‬‬ ‫سبب الغزوة‬ ‫وملا اطمأن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من أقوي أجنحة األحزاب الثالثة، وهو قريش، وأمن منه متاماً بعد صلح احلديبية أراد أن حياسب‬ ‫اجلناحني الباقيني ـ اليهود وقبائل جند ـ حىت يتم األمن والسالم، ويسود اهلدوء يف املنطقة، غ املسلمون من الصراع الدامي املتواصل إىل تبليغ‬ ‫ويفر‬ ‫رسالة اهلل والدعوة إليه.‬ ‫وملا كانت خيرب هي كرة الدس والتآمر كز االستفزازات العسكرية، ومعدن التحرشات وإثارة احلروب، كانت هي اجلديرة بالتفات املسلمني أوال.‬ ‫ومر‬ ‫و‬ ‫أما كون خيرب هبذه الصفة، فال ننسي أن أهل خيرب هم الذين حزبوا األحزاب ضد املسلمني، وأثاروا بين قريظة على الغدر واخليانة، مث أخذوا يف‬ ‫االتصاالت باملنافقني ـ الطابور اخلامس يف اجملتمع اإلسالمي ـ وبغطفان وأعراب البادية ـ اجلناح الثالث من األحزاب ـ كانوا هم أنفسهم يتهيأون‬ ‫و‬ ‫للقتال، فألقوا املسلمني بإجراءاهتم هذه يف حمن متوصلة، حىت وضعوا خطة الغتيال النيب صلى اهلل عليه وسلم، وإزاء ذلك اضطر املسلمون إىل‬ ‫ِ‬ ‫بعوث متواصلة، وإىل الفتك برأس هؤالء املتآمرين، مثل سالم بن أيب احلُقْيق، وأسري بن زارم، ولكن الواجب على املسلمني إزاء هؤالء اليهود كان‬ ‫َ‬ ‫أكرب من ذلك، وإمنا أبطأوا يف القيام هبذا الواجب ؛ ألن قوة أكرب وأقوي وألد وأعند منهم ـ وهي قريش ـ كانت جماهبة للمسلمني، فلما انتهت هذه‬ ‫اجملاهبة صفا اجلو حملاسبة هؤالء اجملرمني، واقرتب هلم يوم احلساب.‬ ‫اخلروج إىل خيرب‬ ‫قال ابن إسحاق: أقام رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم باملدينة حني رجع من احلديبية ذا احلجة وبعض احملرم، مث ج يف بقية احملرم إىل خيرب.‬ ‫خر‬ ‫ِ‬ ‫قال املفسرون: إن خيرب كانت وعدا وعدها اهلل تعاىل بقوله: {وعدكم اللَّهُ مغَاِن كثِرية تَأْخذونَـها فَـعجل لَكم هذهِ} [الفتح: 02] يعين صلح‬ ‫َّ ُ ِ‬ ‫َ َ َ ُ ُ َ َ َ ًَ ُ ُ َ َ َ ْ َ‬ ‫احلديبية، وباملغاِن الكثرية خيرب.‬
  • 36. ‫عدد اجليش اإلسالمي‬ ‫‪‬‬ ‫وملا كان املنافقون وضعفاء اإلْيان ختلفوا عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف غزوة احلديبية أمر اهلل تعاىل نبيه صلى اهلل عليه وسلم فيهم قائالً: {سيَـقول‬ ‫َُ ُ‬ ‫ِ‬ ‫الْمخلَّفون إِذا انطَلَقتُم إِىل مغَاِن لِتَأْخذوها ذرونَا نَـتَّبِعكم يُريدون أَن يـُبَدلُوا كالم اللَّه قُل لَّن تَـتَّبِعونَا كذلِكم قَال اللَّهُ من قَـْبل فَسيَـقولُون بَل حتسدونَـنَا بَل كانُوا ال‬ ‫َْ َ‬ ‫ُ َ َ ُ ْ َ ِ ُ َ ُ َ ْ َْ ُ ُ‬ ‫ِّ َ َ ِ‬ ‫َ‬ ‫ُْْ ُِ َ‬ ‫ُ َ ُ ََِّ َ ِ ْ ْ َ َ َ ُ ُ َ َ ُ‬ ‫يَـفقهون إال قَليال} [الفتح: 51].‬ ‫ً‬ ‫َُْ َ‬ ‫فلما أراد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم اخلروج إىل خيرب أعلن أال ج معه إال راغب يف اجلهاد، فلم ج إال أصحاب الشجرة وهم ألف وأربعمائة.‬ ‫خير‬ ‫خير‬ ‫واستعمل على املدينة سبَاع بن عرفُطَة الغفاري، وقال ابن إسحاق: منَْيـلَة بن عبد اهلل الليثي، واألول أصح عند احملققني.‬ ‫ُ‬ ‫ُْ َ‬ ‫ِ‬ ‫وبعد خروجه صلى اهلل عليه وسلم قدم أبو هريرة املدينة مسلماً، فوايف سباع بن عرفطة يف صالة الصبح، فلما غ من صالته أيت سباعا فزوده، حىت قدم على‬ ‫فر‬ ‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم، كلم املسلمني كوه وأصحابه يف سهماهنم.‬ ‫فأشر‬ ‫و‬ ‫اتصال املنافقني باليهود‬ ‫وقد قام املنافقون يعملون لليهود، فقد أرسل رأس املنافقني عبد اهلل بن أيب إىل يهود خيرب: إن حممداً قصد قصدكم، وتوجه إليكم، فخذوا كم، وال ختافوا منه‬ ‫حذر‬ ‫فإن عددكم وعدتكم كثرية، وقوم حممد شرذمة قليلون، عزل، ال سالح معهم إال قليل، فلما علم ذلك أهل خيرب، أرسلوا كنانة بن أيب احلقيق وهوذة بن قيس إىل‬ ‫َْ َ‬ ‫ّ‬ ‫غطفان يستمدوهنم ؛ ألهنم كانوا حلفاء يهود خيرب، ومظاهرين هلم على املسلمني، وشرطوا هلم نصف مثار خيرب إن هم غلبوا املسلمني.‬ ‫الطريق إىل خيرب‬ ‫وسلك رسول صلى اهلل عليه وسلم يف اجتاهه حنو خيرب جـبل عــصر ـ بالكسر، وقيل: بالتحريك ـ مث على الصهباء، مث نزل على واد يقال له: الرجيع، كان بينه وبني‬ ‫و‬ ‫غطفان مسرية يوم وليلة، فتهيأت غطفان وتوجهوا إىل خيرب، إلمداد اليهود، فلما كانوا ببعض الطريق مسعوا من خلفهم حساً ولغطاً، فظنوا أن املسلمني أغاروا على‬ ‫أهاليهم وأمواهلم فرجعوا، وخلوا بني رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وبني خيرب.‬ ‫مث دعا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الدليلني اللذين كانا يسلكان باجليش ـ كان اسم أحدمها: حسْيل ـ ليداله على الطريق األحسن، حىت يدخل خيرب من جهة‬ ‫َُ‬ ‫و‬ ‫الشمال ـ أي جهة الشام ـ فيحول بني اليهود وبني طريق فرارهم إىل الشام، كما حيول بينهم وبني غطفان.‬ ‫قال أحدمها: أنا أدلك يا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم، فأقبل حىت انتهي إىل مفرق الطرق املتعددة وقال: يا رسول اهلل، هذه طرق ْيكن الوصول من كل منها‬ ‫إىل املقصد، فأمر أن يسمها له واحداً واحداً. قال: اسم واحد منها حزن، فأيب النيب صلى اهلل عليه وسلم من كه، قال: اسم اآلخر شاش، فامتنع منه أيضاً،‬ ‫سلو‬ ‫وقال: اسم اآلخر حاطب، فامتنع منه أيضاً، قال حسيل: فما بقي إال واحد. قال عمر: ما امسه؟ قال: مرحب، فاختار النيب صلى اهلل عليه وسلم كه.‬ ‫سلو‬ ‫َْ َ‬ ‫بعض ما وقع يف الطريق‬
  • 37. ‫1 ـ عن سلمة بن األكوع قال: خرجنا مع النيب صلى اهلل عليه وسلم إىل خيرب فسرنا ليالً، فقال رجل من القوم لعامر: يا عامر، أال تسمعنا من هنيهاتك؟ ـ كان عامر رجالً شاعراً ـ فنزل حيدو بالقوم، يقول:‬ ‫و‬ ‫‪‬‬ ‫اللهم لوال أنت ما اهتديـنا ** وال تَصدقْنا وال صلَّيـنـا‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫فاغـفر فِداءً لك ما اقْـتَـفيْنا ** وثبِّت األقدام إن القينـا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وألْـقني سكـينة عــلينا ** إنا إذا صــيح بنا أبينــا‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫وبالصياح عولُوا عــلينا **‬ ‫َ َّ‬ ‫فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم: (من هذا السائق) قــالوا: عــامر بــن األكوع، قال: (يرمحه اهلل): قال رجل من القوم: وجبت يا نيب اهلل، لوال أمتعتنا به.‬ ‫كانوا يعرفون أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ال يستغفر إلنسان خيصه إال استشهد ، وقد وقع ذلك يف حرب خيرب.‬ ‫و‬ ‫َّ ويق، فأمر به فثري، فأكل وأكل الناس، مث قام إىل املغرب، فمضمض، ومضمض الناس، مث صلي مل‬ ‫و‬ ‫2 ـ وبالصهباء من أدين خيرب صلي النيب صلى اهلل عليه وسلم العصر، مث دعا باألزواد، فلم يؤت إال بالس ِ‬ ‫يتوضأ ، مث صلي العشاء.‬ ‫3 ـ وملا دنا من خيرب وأشرف عليها قال: (قفوا)، فوقــف اجليش، فــقال: (اللهم رب السموات السبع وما أظللن، ورب األرضني السبع وما أقللن، ورب الشياطني وما أضللن، ورب الرياح وما أذرين، فإنا نسألك‬ ‫خري هذه القرية، وخري أهلها، وخري ما فيها، ونعوذ بك من شر هذه القرية، وشر أهلها، وشر ما فيها، أقدموا، بسم اهلل).‬ ‫اجليش اإلسالمي إىل أسوار خيرب‬ ‫وبات املسلمون الليلة األخرية اليت بدأ يف صباحها القتال قريبًا من خيرب، وال تشعر هبم اليهود، كان النيب صلى اهلل عليه وسلم إذا أيت قوما بليل مل يقرهبم حىت يصبح، فلما أصبح صلي الفجر بغَلَس، كب‬ ‫ور‬ ‫ً‬ ‫و‬ ‫ِ‬ ‫املسلمون، فخرج أهل خيرب مبساحيهم ومكاتلهم، وال يشعرون، بل خرجوا ألرضهم، فلما رأوا اجليش قالوا: حممد، واهلل حممد واخلَميس ، مث رجعوا هاربني إىل مدينتهم، فقال النيب صلى اهلل عليه وسلم: (اهلل‬ ‫أكرب، خربت خيرب، اهلل أكرب، خربت خيرب، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح املنذرين).‬ ‫حصون خيرب‬ ‫كانت خيرب منقسمة إىل شطرين، شطر فيها مخسة حصون:‬ ‫و‬ ‫1 ـ حصن ناعم. 2 ـ حصن الصعب بن معاذ.‬ ‫َّ ْ‬ ‫3 ـ حصن قلعة الزبري. 4 ـ حصن أيب.‬ ‫5 ـ حصن النِّزار.‬ ‫ـَ‬ ‫واحلصون الثالثة األويل منها كانت تقع يف منطقة يقال هلا: (النطاة) وأما احلصنان اآلخران فيقعان يف منطقة تسمي َّق.‬ ‫ِّ‬ ‫بالش‬ ‫أما الشطر الثاين، ويعرف بالكتيبة، ففيه ثالثة حصون فقط:‬ ‫1 ـ حصن القموص [ كان حصن بين أيب احلقيق من بين النضري].‬ ‫و‬ ‫َُ‬ ‫ِ‬ ‫2 ـ حصن الوطيح.‬ ‫َ‬ ‫3 ـ حصن السالمل.‬ ‫ُّ‬
  • 38. ‫ويف خيرب حصون وقالع غري هذه الثمانية، إال أهنا كانت صغرية، ال تبلغ إىل درجة هذه القالع يف مناعتها وقوهتا.‬ ‫‪‬‬ ‫والقتال املرير إمنا دار يف الشطر األول منها، أما الشطر الثاين فحصوهنا الثالثة مع كثرة احملاربني فيها سلمت دومنا قتال.‬ ‫معسكر اجليش اإلسالمي‬ ‫وتقدم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حىت اختار ملعسكره منزالً، فأتاه حبَاب بن املنذر، فقال: يا رسول اهلل، أرأيت هذا املنزل أنزلكه اهلل، أم هو الرأي يف‬ ‫ُ‬ ‫احلرب؟ قال: (بل هو الرأي) فقال: يا رسول اهلل، إن هذا املنزل قريب جدا من حصن نَطَاة، ومجيع مقاتلي خيرب فيها، وهم يدرون أحوالنا، وحنن ال ندري‬ ‫ً‬ ‫أحواهلم، وسهامهم تصل إلينا، وسهامنا ال تصل إليهم، وال نأمن من بياهتم، وأيضا هذا بني النخالت، ومكان غائر، وأرض وخيمة، لو أمرت مبكان خال عن‬ ‫ً‬ ‫هذه املفاسد نتخذه معسكرا، قال صلى اهلل عليه وسلم: (الرأي ما أشرت)، مث حتول إىل مكان آخر.‬ ‫ً‬ ‫التهيؤ للقتال وبشارة الفتح‬ ‫وملا كانت ليلة الدخول ـ وقيل: بل بعد عدة حماوالت وحماربات ـ قال النيب صلى اهلل عليه وسلم: (ألعطني الراية غدا رجالً حيب اهلل ورسوله وحيبه اهلل‬ ‫ً‬ ‫ورسوله، [يفتح اهلل على يديه ]) فلما أصبح الناس غدوا على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم، كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: (أين علي بن أيب طالب؟)‬ ‫فقالوا: يا رسول اهلل، هو يشتكي عينيه، قال: (فأرسلوا إليه) ، فأيت به فبصق رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف عينيه، ودعا له، فربئ، كأن مل يكن به وجع،‬ ‫فأعطاه الراية، فقال: يا رسول اهلل، أقاتلهم حىت يكونوا مثلنا، قال: (انفذ على رسلك، حىت تنزل بساحتهم، مث ادعهم إىل اإلسالم، وأخربهم مبا جيب عليهم‬ ‫من حق اهلل فيه، فواهلل، ألن يهدي اهلل بك رجال واحدا خري لك من أن يكون لك محر النعم).‬ ‫ً‬ ‫بدء كة وفتح حصن ناعم‬ ‫املعر‬ ‫أما اليهود فإهنم ملا رأوا اجليش وفروا إىل مدينتهم حتصنوا يف حصوهنم، كان من الطبيعي أن يستعدوا للقتال.‬ ‫و‬ ‫وأول حصن هامجه املسلمون من حصوهنم الثمانية هو حصن ناعم.‬ ‫كان خط الدفاع األول لليهود ملكانه االسرتاتيجي، كان هذا احلصن هو حصن مرحب البطل اليهودي الذي كان يعد باأللف.‬ ‫و‬ ‫و‬ ‫ج علي بن أيب طالب رضي اهلل عنه باملسلمني إىل هذا احلصن، ودعا اليهود إىل اإلسالم، فرفضوا هذه الدعوة، وبرزوا إىل املسلمني ومعهم ملكهم مرحب،‬ ‫خر‬ ‫فلما ج إىل ميدان القتال دعا إىل املبارزة، قال سلمة بن األكوع: فلما أتينا خيرب ج ملكهم مرحب خيطر بسيفه يقول:‬ ‫خر‬ ‫خر‬ ‫َ ي السالح بطل جمَرب‬ ‫ُ َّ‬ ‫قد علِمت خيرب أين مرحب ** شاكِ‬ ‫َْ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫إذا احلروب أقبلت تَـلَهب **‬ ‫ْ َّ‬
  • 39. ‫فربز له عمي عامر فقال:‬ ‫‪‬‬ ‫قد علمت خيرب أين عامر ** شاكي السالح بطل مغَ ِ‬ ‫ُ امر‬ ‫فاختلفا ضربتني، فوقع سيف مرحب يف ترس عمي عامر، وذهب عامر يسفل له، كان سيفه قصريا، فتناول به ساق اليهودي ليضربه، فريجع ذُبَاب سيفه فأصاب عني كبته فمات منه، وقال فيه النيب صلى اهلل عليه‬ ‫ر‬ ‫ً‬ ‫و‬ ‫ِ‬ ‫ِ ٌ ُ ِ َّ‬ ‫وسلم: (إن له ألجرين ـ ومجع بني إصبعيه ـ إنه جلَاهد جمَاهد، قَل عريب مشي هبا مثْـلَه).‬ ‫ََ‬ ‫ويبدو أن مرحبًا دعا بعد ذلك إىل الرباز مرة أخري وجعل يرجتز بقوله:‬ ‫قد علمت خيرب أين مرحب... إخل، فربز له على بن أيب طالب. قال سلمة ابن األكوع: فقال علي:‬ ‫ِ‬ ‫َ ِ َ َْ‬ ‫أنا الذي مستين أمي حْيدره ** كلَْيث غابات كريه املْنظَره‬ ‫َ َ َْ‬ ‫أُوفِيهم بالصاع كيْل السنْدره **‬ ‫َّ َ َّ َ َ ْ‬ ‫فضرب رأس مرحب فقتله، مث كان الفتح على يديه.‬ ‫وملا دنا علي رضي اهلل عنه من حصوهنم اطلع يهودي من رأس احلصن، وقال: من أنت؟ فقال: أنا علي بن أيب طالب، فقال اليهودي: علومت وما أنزل على موسى.‬ ‫مث خرج ياسر أخو مرحب، وهو يقول: من يبارز؟ فربز إليه الزبري، فقالت صفية أمه: يا رسول اهلل، يقتل ابين، قال: (بل ابنك يقتله)، فقتله الزبري.‬ ‫ودار القتال املرير حول حصن ناعم، قتل فيه عدة سراة من اليهود، اهنارت ألجله مقاومة اليهود، وعجزوا عن صد هجوم املسلمني، ويؤخذ من املصادر أن هذا القتال دام أياما القي املسلمون فيها مقاومة شديدة، إال‬ ‫ً‬ ‫أن اليهود يئسوا من مقاومة املسلمني، فتسللوا من هذا احلصن إىل حصن الصعب، واقتحم املسلمون حصن ناعم.‬ ‫َّ ْ‬ ‫فتح حصن الصعب بن معاذ‬ ‫كان حصن الصعب احلصن الثاين من حيث القوة واملناعة بعد حصن ناعم، قام املسلمون باهلجوم عليه حتت قيادة احلباب بن املنذر األنصاري، ففرضوا عليه احلصار ثالثة أيام، ويف اليوم الثالث، دعا رسول اهلل صلى‬ ‫و‬ ‫اهلل عليه وسلم لفتح هذا احلصن دعوة خاصة.‬ ‫روي ابن إسحاق أن بين سهم من أسلم أتوا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم، فقالوا: لقد جهدنا، وما بأيدينا من شيء، فقال: (اللهم إنك قد عرفت حاهلم، وأن ليست هبم قوة، وأن ليس بيدي شيء أعطيهم إياه،‬ ‫فافتح عليهم أعظم حصوهنا عنهم غَنَاء، وأكثرها طعاما وودكا). فغدا الناس ففتح اهلل عز وجل حصن الصعب بن معاذ، وما خبيرب حصن كان أكثر طعاما وودكا منه.‬ ‫ً ً‬ ‫ً َ ًَ‬ ‫وملا ندب النيب صلى اهلل عليه وسلم املسلمني بعد دعائه ملهامجة هذا احلصن كان بنو أسلم هم املقادمي يف املهامجة، ودار الرباز والقتال أمام احلصن، مث فتح احلصن يف ذلك اليوم قبل أن تغرب الشمس، ووجد فيه‬ ‫املسلمون بعض املنجنيقات والدبابات.‬ ‫وألجل هذه اجملاعة الشديدة اليت ورد ذكرها يف رواية ابن إسحاق، كان رجال من اجليش قد ذحبوا احلمري، ونصبوا القدور على النريان، فلما علم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بذلك هني عن حلوم احلمر اإلنسية.‬ ‫فتح قلعة الزبري‬ ‫ـ ة ، ال تقدر عليه اخليل والرجال لصعوبته وامتناعه، ففرض عليه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم احلصار،‬ ‫وبعد فتح حصن ناعم والصعب حتول اليهود من كل حصون النَّطَاة إىل قلعة الزبري، وهو حصن منيع يف رأس قُلَّ ٍ‬ ‫وأقام حماصرا ثالثة أيام، فجاء رجل من اليهود، وقال: يا أبا القاسم، إنك لو أقمت شهرا ما بالوا، إن هلم شرابًا وعيونًا حتت األرض، خيرجون بالليل ويشربون منها، مث يرجعون إىل قلعتهم فيمتنعون منك، فإن قطعت‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫مشرهبم عليهم أصحروا لك. فقطع ماءهم عليهم، فخرجوا فقاتلوا أشد القتال، قتل فيه نفر من املسلمني، وأصيب حنو العشرة من اليهود، وافتتحه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم.‬ ‫فتح قلعة أيب‬
  • 40. ‫وبعد فتح قلعة الزبري انتقل اليهود إىل قلعة أيب وحتصنوا فيه، وفرض املسلمون عليهم احلصار، وقام بطالن من اليهود واحد بعد اآلخر بطلب املبارزة، وقد قتلهما أبطال املسلمني، كان‬ ‫و‬ ‫‪‬‬ ‫د ِ‬ ‫الذي قتل املبارز الثاين هو البطل املشهور أبو ُجانة مسَاك بن خرشة األنصاري صاحب العصابة احلمراء. وقد ع أبو دجانة بعد قتله إىل اقتحام القلعة، واقتحم معه اجليش اإلسالمي،‬ ‫أسر‬ ‫ََ َ‬ ‫َ‬ ‫وجري قتال مرير ساعة داخل احلصن، مث تسلل اليهود من القلعة، وحتولوا إىل حصن النزار آخر حصن يف الشطر األول.‬ ‫فتح حصن النَّزار‬ ‫ـَ‬ ‫كان هذا احلصن أمنع حصون هذا الشطر، كان اليهود على شبه اليقني بأن املسلمني ال يستطيعون اقتحام هذه القلعة، وإن بذلوا قصاري جهدهم يف هذا السبيل، ولذلك أقاموا يف‬ ‫و‬ ‫هذه القلعة مع الذراري والنساء، بينما كانوا قد أخلوا منها القالع األربعة السابقة.‬ ‫وفرض املسلمون على هذا احلصن أشد احلصار، وصاروا يضغطون عليهم بعنف، ولكون احلصن يقع على جبل مرتفع منيع مل يكونوا جيدون سبيال لالقتحام فيه. أما اليهود فلم جيرتئوا‬ ‫للخروج من احلصن، ولالشتباك مع قوات املسلمني، ولكنهم قاوموا املسلمني مقاومة عنيدة برشق النبال، وبإلقاء احلجارة.‬ ‫وعندما استعصى حصن النزار على قوات املسلمني، أمر النيب صلى اهلل عليه وسلم بنصب آالت املنجنيق، ويبدو أن املسلمني قذفوا به القذائف، فأوقعوا اخللل يف جدران احلصن،‬ ‫واقتحموه، ودار قتال مرير يف داخل احلصن اهنزم أمامه اليهود هزْية منكرة، وذلك ألهنم مل يتمكنوا من التسلل من هذا احلصن كما تسللوا من احلصون األخري، بل فروا من هذا احلصن‬ ‫كني للمسلمني نساءهم وذراريهم.‬ ‫تار‬ ‫وبعد فتح هذا احلصن املنيع مت فتح الشطر األول من خيرب، وهي ناحية النَّطَاة و َّق، كانت يف هذه الناحية حصون صغرية أخري إال أن اليهود مبجرد فتح هذا احلصن املنيع أخلوا هذه‬ ‫الش ِّ و‬ ‫احلصون، وهربوا إىل الشطر الثاين من بلدة خيرب.‬ ‫فتح الشطر الثاين من خيرب‬ ‫َطيح والسالمل، وجاءهم‬ ‫ُّ‬ ‫وملا أمت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فتح ناحية النطاة والشق، حتول إىل أهل الكتيبة اليت هبا حصن القموص: حصن بين أيب احلقيق من بين النضري، وحصن الو ِ‬ ‫َُ ْ‬ ‫َُ‬ ‫كل فَل كان اهنزم من النطاة والشق، وحتصن هؤالء أشد التحصن.‬ ‫ِّ‬ ‫واختلف أهل املغازي هل جري هناك قتال يف أي حصن من حصوهنا الثالثة أم ال؟ فسياق ابن إسحاق صريح يف جريان القتال لفتح حصن القموص، بل يؤخذ من سياقه أن هذا‬ ‫احلصن مت فتحه بالقتال فقط من غري أن جيري هناك مفاوضة لالستسالم.‬ ‫أما الواقدي، ح متام التصريح أن قالع هذا الشطر الثالث إمنا أخذت بعد املفاوضة، وْيكن أن تكون املفاوضة قد جرت الستالم حصن القموص بعد إدارة القتال، وأما احلصنان‬ ‫فيصر‬ ‫اآلخران فقد سلما إىل املسلمني دومنا قتال.‬ ‫ومهما كان، فلما أيت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إىل هذه الناحية ـ الكتيبة ـ فرض على أهلها أشد احلصار، ودام احلصار أربعة عشر يوما، واليهود ال خيرجون من حصوهنم، حىت هم‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن ينصب عليهم املنجنيق، فلما أيقنوا باهللكة سألوا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الصلح.‬ ‫املفاوضة‬
  • 41. ‫وأرسل ابن أيب احلُقْيق إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم: أنزل فأكلمك؟ قال: (نعم)، فنزل، وصاحل على حقن دماء من يف حصوهنم من املقاتلة، وترك‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫‪‬‬ ‫الذرية هلم، وخيرجون من خيرب وأرضها بذراريهم، وخيلون بني رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وبني ما كان هلم من مال وأرض، وعلى الصفراء والبيضاء ـ أي‬ ‫الذهب والفضة ـ والكراع واحلَلقة إال ثوبًا على ظهر إنسان ، فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم: (وبرئت منكم ذمة اهلل وذمة رسوله إن كتمتموين شيئا)،‬ ‫َُ ْ َْ‬ ‫فصاحلوه على ذلك ، وبعد هذه املصاحلة مت تسليم احلصون إىل املسلمني، وبذلك مت فتح خيرب.‬ ‫قتل ابين أيب احلقيق لنقض العهد‬ ‫وعلى رغم هذه املعاهدة غيب ابنا أيب احلقيق ماال كثريا، غيبا مسكا فيه مال وحلُي حليي بن أخطب، كان احتمله معه إىل خيرب حني أجليت النضري.‬ ‫ُ‬ ‫ًَْ‬ ‫ِ‬ ‫قال ابن إسحاق: وأيت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بكنَانة الربيع، كان عنده كنز بين النضري، فسأله عنه، فجحد أن يكون يعرف مكانه، فأيت رجل من‬ ‫و‬ ‫اليهود فقال: إين رأيت كنانة يطيف هبذه اخلربة كل غداة، فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم لكنانة: (أرأيت إن وجدناه عندك أأقتلك؟) قال: نعم، فأمر‬ ‫باخلربة، فحفرت، ج منها بعض كنزهم، مث سأله عما بقي، فأيب أن يؤديه. فدفعه إىل الزبري، وقال: عذبه حىت نستأصل ما عنده، فكان الزبري يقدح بزند‬ ‫فأخر‬ ‫يف صدره حىت أشرف على نفسه، مث دفعه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إىل حممد بن مسلمة، فضرب عنقه مبحمود بن مسلمة ـ كان حممود قتل حتت‬ ‫و‬ ‫جدار حصن ناعم، ألقي عليه الرحي، وهو يستظل باجلدار فمات ـ.‬ ‫وذكر ابن القيم أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أمر بقتل ابين أيب احلقيق، كان الذي اعرتف عليهما بإخفاء املال هو ابن عم كنانة.‬ ‫و‬ ‫وسيب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم صفية بنت حيي بن أخطب، كانت حتت كنانة بن أيب احلقيق، كانت عروسا حديثة عهد بالدخول.‬ ‫ً‬ ‫و‬ ‫و‬ ‫قسمة الغنائم‬ ‫وأراد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن جيلي اليهود من خيرب، فقالوا: يا حممد، دعنا نكون يف هذه األرض، نصلحها، ونقوم عليها، فنحن أعلم هبا منكم،‬ ‫ومل يكن لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وال ألصحابه غلمان يقومون عليها، كانوا ال يفرغون حىت يقوموا عليها، فأعطاهم خيرب على أن هلم الشطر من كل‬ ‫و‬ ‫ع، ومن كل مثر، ما بدا لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن يقرهم، كان عبد اهلل بن رواحة خيرصه عليهم.‬ ‫و‬ ‫زر‬ ‫وقسم أرض خيرب على ستة وثالثني سهما، مجع كل سهم مائة سهم، فكانت ثالثة آالف وستمائة سهم، فكان لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم واملسلمني‬ ‫ً‬ ‫النصف من ذلك وهو ألف ومثامنائة سهم، لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم سهم كسهم أحد املسلمني، وعزل النصف اآلخر، وهو ألف ومثامنائة سهم، لنوائبه‬ ‫وما يتنزل به من أمور املسلمني، وإمنا قسمت على ألف ومثامنائة سهم ألهنا كانت طعمة من اهلل ألهل احلديبية من شهد منهم ومن غاب، كانوا ألفا‬ ‫و‬ ‫وأربعمائة، كان معهم مائتا فرس، لكل فرس سهمان، فقسمت على ألف ومثامنائة سهم، فصار للفارس ثالثة أسهم، وللراجل سهم واحد.‬ ‫و‬
  • 42. ‫ويدل على كثرة مغاِن خيرب ما رواه البخاري عن ابن عمر قال: ما شبعنا حىت فتحنا خيرب، وما رواه عن عائشة قالت:‬ ‫‪‬‬ ‫ملا فتحت خيرب قلنا: اآلن نشبع من التمر ، وملا رجع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إىل املدينة رد املهاجرون إىل‬ ‫األنصار منائحهم اليت كانوا منحوهم إياها من النخيل حني صار هلم خبيرب مال وخنيل.‬ ‫قدوم جعفر بن أيب طالب واألشعريني‬ ‫ويف هذه الغزوة قدم عليه ابن عمه جعفر بن أيب طالب وأصحابه، ومعهم األشعريون أبو موسى وأصحابه.‬ ‫قال أبو موسي: بلغنا ج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وحنن باليمن، فخرجنا مهاجرين إليه ـ أنا وأخوان يل ـ يف‬ ‫خمر‬ ‫بضع ومخسني رجالً من قومي، كبنا سفينة، فألقتنا سفينتنا إىل النجاشي باحلبشة، فوافقنا جعفرا وأصحابه عنده،‬ ‫ً‬ ‫ر‬ ‫فقال: إن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بعثنا وأمرنا باإلقامة، فأقيموا معنا، فأقمنا معه حىت قدمنا فوافقنا رسول اهلل‬ ‫صلى اهلل عليه وسلم حني فتح خيرب، فأسهم لنا، وما قسم ألحد غاب عن فتح خيرب شيئا إال ملن شهد معه، إال‬ ‫ألصحاب سفينتنا مع جعفر وأصحابه، قسم هلم معهم.‬ ‫وملا قدم جعفر على النيب صلى اهلل عليه وسلم تلقاه وقَـبَّل ما بني عينيه وقال: (واهلل ما أدري بأيهما ح؟ بفتح خيرب‬ ‫أفر‬ ‫َ‬ ‫أم بقدوم جعفر).‬ ‫كان قدوم هؤالء على أثر بعث الرسول صلى اهلل عليه وسلم إىل النجاشي عمرو بن أمية الضمري يطلب توجيههم‬ ‫و‬ ‫إليه، فأرسلهم النجاشي على كبني، كانوا ستة عشر رجالً، معهم من بقي من نسائهم وأوالدهم، وبقيتهم جاءوا إىل‬ ‫مر و‬ ‫املدينة قبل ذلك.‬
  • 43. ‫ِ‬ ‫وهذه كة أكرب لقاء مثْخن، وأعظم حرب دامية خاضها املسلمون يف حياة رسول اهلل‬‫املعر‬ ‫ُ‬ ‫‪‬‬ ‫صلى اهلل عليه وسلم، وهي مقدمة ومتهيد لفتوح بلدان النصاري، وقعت يف مجادي األويل‬ ‫سنة 8 هـ، وفق أغسطس أو سبتمرب سنة 629 م.‬ ‫ومؤتة (بالضم فالسكون) هي قرية بأدين بلقاء الشام، بينها وبني بيت املقدس مرحلتان.‬ ‫سبب كة‬ ‫املعر‬ ‫وسبب هذه كة أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بعث احلارث بن عمري األزدي‬ ‫املعر‬ ‫بكتابه إىل عظيم بُصري. فعرض له شرحبِيل بن عمرو الغساين ـ كان عامالً على البلقاء‬ ‫و‬ ‫َُ ْ‬ ‫َْ‬ ‫من أرض الشام من قبل قيصر ـ فأوثقه رباطاً، مث قدمه، فضرب عنقه.‬ ‫كان قتل السفراء والرسل من أشنع اجلرائم، يساوي بل يزيد على إعالن حالة احلرب،‬ ‫و‬ ‫فاشتد ذلك على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حني نقلت إليه األخبار، فجهز إليهم‬ ‫جيشاً قوامه ثالثة آالف مقاتل ، وهو أكرب جيش إسالمي مل جيتمع قبل ذلك إال يف غزوة‬ ‫األحزاب.‬
  • 44. ‫أمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على هذا البعث زيد بن حارثة، وقال: (إن قتل زيد‬ ‫‪‬‬ ‫فجعفر، وإن قتل جعفر فعبد اهلل بن رواحة) ، وعقد هلم لواء أبيض، ودفعه إىل زيد بن‬ ‫حارثة.‬ ‫وحترك اجليش اإلسالمي يف اجتاه الشمال حىت نزل معان، من أرض الشام، مما يلي احلجاز‬ ‫ََ‬ ‫الشمإىل، وحينئذ نقلت إليهم االستخبارات بأن هرقل نازل مبآب من أرض البلقاء يف مائة‬ ‫ألف من الروم، وانضم إليهم من خلْم وجذام وبَـ ْلقني وبـَهراء وبَلِي مائة ألف.‬ ‫َْ َْ‬ ‫َ َُ‬ ‫وقد قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يوم مؤتة ـ خمرباً بالوحي، قبل أن يأيت إىل الناس‬ ‫اخلرب من ساحة القتال: (أخذ الراية زيد فأصيب، مث أخذ جعفر فأصيب، مث أخذ ابن‬ ‫رواحة فأصيب ـ وعيناه تذرفان ـ حىت أخذ الراية سيف من سيوف اهلل، حىت فتح اهلل‬ ‫عليهم).‬
  • 45. ‫ويظهر بعد النظر يف مجيع الروايات أن خالد بن الوليد جنح يف الصمود أمام جيش الرومان‬ ‫‪‬‬ ‫طول النهار، يف أول يوم من القتال. كان يشعر مبسيس احلاجة إىل مكيدة حربية تلقي‬ ‫و‬ ‫الرعب يف قلوب الرومان حىت ينجح يف االحنياز باملسلمني من غري أن يقوم الرومان كات‬ ‫حبر‬ ‫املطاردة. فقد كـان يعرف جيداً أن اإلفالت من براثنهم صعب جداً لو انكشف املسلمون،‬ ‫وقام الرومان باملطاردة.‬ ‫فلما أصبح اليوم الثاين غري أوضاع اجليش، وعبأه من جديد، فجعل مقدمته ساقه، وميمنته‬ ‫ميسرة، وعلى العكس، فلما رآهم األعداء أنكروا حاهلم، وقالوا: جاءهم مدد، فرعبوا،‬ ‫وصار خالد ـ بعد أن تراءي اجليشان، وتناوشا ساعة ـ يتأخر باملسلمني قليالً قليالً، مع‬ ‫حفظ نظام جيشه، ومل يتبعهم الرومان ظناً منهم أن املسلمني خيدعوهنم، وحياولون القيام‬ ‫مبكيدة ترمي هبم يف الصحراء.‬ ‫وهكذا احناز العدو إىل بالده، ومل يفكر يف القيام مبطاردة املسلمني وجنح املسلمون يف‬ ‫االحنياز ساملني، حىت عادوا إىل املدينة.‬
  • 46. ‫واستشهد يومئذ من املسلمني اثنا عشر رجالً، أما الرومان، فلم يعرف عدد قتالهم، غري‬ ‫‪‬‬ ‫أن تفصيل كة يدل على كثرهتم.‬ ‫املعر‬ ‫أثر كة‬ ‫املعر‬ ‫وهذه كة وإن مل حيصل املسلمون هبا على الثأر، الذي عانوا مرارهتا ألجله، لكنها كانت‬‫املعر‬ ‫كبرية األثر لسمعة املسلمني، إهنا ألقت العرب كلها يف الدهشة واحلرية، فقد كانت الرومان‬ ‫أكرب وأعظم قوة على وجه األرض، كانت العرب تظن أن معين جالدها هو القضاء على‬ ‫و‬ ‫النفس وطلب احلتف بالظِّْلف، فكان لقاء هذا اجليش الصغري ـ ثالثة آالف مقاتل ـ مع‬ ‫ذلك اجليش الضخم العرمرم الكبري ـ مائتا ألف مقاتل ـ مث الرجوع عن الغزو من غري أن‬ ‫تلحق به خسارة تذكر. كان كل ذلك من عجائب الدهر، كان كد أن املسلمني من‬ ‫و يؤ‬ ‫طراز آخر غري ما ألفته العرب وعرفته، وأهنم مؤيدون ومنصورون من عند اهلل، وأن صاحبهم‬ ‫رسول اهلل حقاً. ولذلك نري القبائل اللدودة اليت كانت ال تزال تثور على املسلمني جنحت‬ ‫بعد هذه كة إىل اإلسالم، فأسلمت بنو سلَْيم وأشجع وغطَفان وذُبْـيَان وفَـزارة وغريها.‬ ‫ََ‬ ‫َْ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫املعر‬
  • 47. ‫الفتح األعظم الذي أعز اهلل به دينه ورسوله وجنده وحزبه األمـني، واستنقذ به بلــده وبيته الذي جعله هدي للعاملني، من أيدي‬ ‫‪‬‬ ‫ِ ِّ‬ ‫الكفار و كني، وهو الفتح الذي استبشر بـه أهـل السمـاء، وضـربت أطناب عزه على مناكب اجلوزاء، ودخل الناس به فــي ديــن‬ ‫املشر‬ ‫اهلل أفواجـاً، وأشرق به وجه األرض ضياء وابتهاجاً ا. هـ.‬ ‫سبب الغزوة‬ ‫قدمنا يف وقعة احلديبية أن بنداً من بنود هذه املعاهدة يفيد أن من أحب أن يدخل يف عقد حممد صلى اهلل عليه وسلم وعهده دخل‬ ‫فيه، ومن أحب أن يدخل يف عقد قريش وعهدهم دخل فيه، وأن القبيلة اليت تنضم إىل أي الفريقني تعترب جزءاً من ذلك الفريق،‬ ‫فأي عدوان تتعرض له أي من تلك القبائل يعترب عدواناً على ذلك الفريق.‬ ‫وحسب هذا البند دخلت خزاعة يف عهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم، ودخلت بنو بكر يف عهد قريش، وصارت كل من‬ ‫َُ َ‬ ‫القبيلتني يف أمن من األخري، وقد كانت بني القبيلتني عداوة وتوترات يف اجلاهلية، فلما جاء اإلسالم، ووقعت هذه اهلدنة، وأمن‬ ‫كل فريق من اآلخر ـ اغتنمها بنو بكر، وأرادوا أن يصيبوا من خزاعة الثأر القدمي، ج نـَوفَل بن معاوية ِّيلي يف مجاعة من بين‬ ‫الد‬ ‫فخرِ ْ‬ ‫بكر يف شهر شعبان سنة 8 هـ، فأغاروا على خزاعة ليالً، وهم على ماء يقال له: [الوتري] فأصابوا منهم رجاالً، وتناوشوا واقتتلوا،‬ ‫َ‬ ‫وأعانت قريش بين بكر بالسالح، وقاتل معهم رجال من قريش مستغلني ظلمة الليل، حىت حازوا خزاعة إىل احلرم، فلما انتهوا إليه‬ ‫قالت بنو بكر: يا نوفل، إنا قد دخلنا احلرم، إهلك إهلك، فقال كلمة عظيمة: ال إله اليوم يا بين بكر، أصيبوا كم. فلعمري إنكم‬ ‫ثأر‬ ‫ِ‬ ‫لتَسرقُون يف احلرم، أفال تصيبون كم فيه؟‬ ‫ثأر‬ ‫وملا دخلت خزاعة مكة جلأوا إىل دار بُديْل بن ورقَاء اخلزاعي، وإىل دار مويل هلم يقال له: رافع.‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫و ع عمرو بن سامل اخلزاعي، ج حىت قدم على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم املدينة، فوقف عليه، وهو جالس يف املسجد‬ ‫فخر‬ ‫أسر‬ ‫بني ظهراين الناس فقال:‬
  • 48. ‫فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم: (نصرت يا عمرو بن سامل)، مث عرضت له سحابة من السماء،‬ ‫‪‬‬ ‫فقال: (إن هذه السحابة لتستهل بنصر بين كعب).‬ ‫مث ج بُديْل بن ورقَاء اخلزاعي يف نفر من خزاعة، حىت قدموا على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم املدينة،‬ ‫َُ َ‬ ‫َْ‬ ‫خر َ‬ ‫فأخربوه مبن أصيب منهم، ومبظاهرة قريش بين بكر عليهم، مث رجعوا إىل مكة.‬ ‫يؤخذ من رواية الطرباين أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أمر عائشة ـ قبل أن يأيت إليه خرب نقض امليثاق‬ ‫‪‬‬ ‫بثالثة أيام ـ أن جتهزه، وال يعلم أحد، فدخل عليها أبو بكر، فقال: يابنية، ما هذا اجلهاز؟ قالت: واهلل ما‬ ‫أدري. فقال: واهلل ما هذا زمان غزو بين األصفر، فأين يريد رسول اهلل؟ قالت: واهلل ال علم يل، ويف صباح‬ ‫الثالثة جاء عمرو بن سامل اخلزاعي يف أربعني راكباً، وارجتز: يا رب إين ناشد حممداً... األبيات. فعلم الناس‬ ‫بنقض امليثاق، وبعد عمرو جاء بديل، مث أبو سفيان، وتأكد عند الناس اخلرب، فأمرهم رسول اهلل صلى اهلل‬ ‫عليه وسلم باجلهاز، وأعلمهم أنه سائر إىل مكة، وقال: (اللّهم خذ العيون واألخبار عن قريش حىت نبغتها‬ ‫يف بالدها).‬ ‫وزيادة يف اإلخفاء والتعمية بعث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم سرية قوامها مثانية رجال، حتت قيادة أيب‬ ‫قتادة بن ربْعِي، إىل بطن إضم، فيما بني ذي خشب وذي املروة، على ثالثة بـُرد من املدينة، يف أول شهر‬ ‫ُ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫رمضان سنة 8 هـ ؛ ليظن الظان أنه صلى اهلل عليه وسلم يتوجه إىل تلك الناحية، ولتذهب بذلك األخبار،‬ ‫وواصلت هذه السرية سريها، حىت إذا وصلت حيثما أمرت بلغها أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ج‬ ‫خر‬ ‫إىل مكة، فسارت إليه حىت حلقته.‬
  • 49. ‫كتب حاطب بن أيب بَـلتَـعة إىل قريش كتاباً خيربهم مبسري رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إليهم، مث أعطاه‬ ‫َْ‬ ‫و‬ ‫‪‬‬ ‫امرأة، وجعل هلا جعالً على أن تبلغه قريشاً، فجعلته يف قرون رأسها، مث خرجت به، وأيت رسول اهلل صلى‬‫ُْ‬ ‫وي‬‫اهلل عليه وسلم اخلرب من السماء مبا صنع حاطب، فبعث علياً واملقداد والزبري بن العوام وأبا م ْرثَد الغَنَ ِ‬ ‫َ‬ ‫فقال: (انطلقوا حىت تأتوا روضةَ خاخ، فإن هبا ظعينة معها كتاب إىل قريش)، فانطلقوا تعادي هبم خيلهم‬ ‫َْ َ َ‬ ‫حىت وجدوا املرأة بذلك املكان، فاستنـزلوها، وقالوا: معك كتاب؟ فقالت: ما معي كتاب، ففتشوا رحلها فلم‬ ‫جيدوا شيئاً. فقال هلا علي: أحلف باهلل، ما كذب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وال كذبنا، واهلل لتخرجن‬ ‫الكتاب أو لنجردنك. فلما رأت اجلد منه قالت: أعرض، فأعرض، فحلت قرون رأسها، فاستخرجت‬ ‫الكتاب منها، فدفعته إليهم، فأتوا به رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم، فإذا فيه: (من حاطب بن أيب بلتعة‬ ‫إىل قريش) خيربهم مبسري رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم، فدعا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حاطباً،‬ ‫فقال: (ما هذا يا حطب؟) فقال: ال تَـعجل على يا رسول اهلل. واهلل إين ملؤمن باهلل ورسوله، وما ارتددت وال‬ ‫ْ‬ ‫َ سهم، ويل فيهم أهل وعشرية وولد، وليس يل‬ ‫بدلت، ولكين كنت امرأ ملْصقـا يف قريشَ؛ْ لست من أنْـف ِ‬ ‫ُ ًَ‬ ‫فيهم قرابة حيموهنم، كان من معك له قرابات حيموهنم، فأحببت إذ فاتين ذلك أن أختذ عندهم يداً حيمون‬‫و‬ ‫هبا قرابيت. فقال عمر بن اخلطاب: دعين يا رسول اهلل أضرب عنقه، فإنه قد خان اهلل ورسوله، وقد نافق،‬ ‫فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم: (إنه قد شهد بدراً، وما يدريك يا عمر لعل اهلل قد اطلع على أهل‬ ‫بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم)، فذرفَت عينا عمر، وقال: اهلل ورسوله أعلم.‬ ‫ََ ْ‬
  • 50. ‫وهكذا أخذ اهلل العيون، فلم يبلغ إىل قريش أي خرب من أخبار جتهز املسلمني وهتيئهم للزحف والقتال.‬ ‫‪‬‬ ‫اجليش اإلسالمي يتحرك حنو مكة‬ ‫ولعشر خلون من شهر رمضان املبارك 8 هـ، غادر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم املدينة متجهاً إىل مكــة،‬ ‫يف عشرة أالف من الصحابة رضي اهلل عنهم، واستخـلف على املدينة أبا رهم الغفاري.‬ ‫ُْ‬ ‫وملا كان باجلُحفة ـ أو فوق ذلك ـ لقيه عمه العباس بن عبد املطلب، كان قد ج بأهله وعياله مسلما‬ ‫ً‬ ‫خر‬ ‫و‬ ‫َْ‬ ‫مهاجراً، مث ملا كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم باألبواء لقيه ابن عمه أبو سفيان ابن احلارث وابن عمته‬ ‫عبد اهلل بن أيب أمية، فأعرض عنهما، ملا كان يلقاه منهما من شدة األذي واهلجو، فقالت له أم سلمة: ال‬ ‫يكن ابن عمك وابن عمتك أشقي الناس بك. وقال على أليب سفيان بن احلارث: ائت رسول اهلل صلى اهلل‬ ‫ِ َ ْ ََ‬ ‫عليه وسلم من قبل وجهه، فقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف: {قَالُواْ تَاللّه لَقد آثـَرك اللّهُ علَْيـنَا وإِن كنَّا‬ ‫َ َ ُ‬ ‫خلَاطئِني} [يوسف:19]، فإنه ال يرضي أن يكون أحد أحسن منه قوالً. ففعل ذلك أبو سفيان، فقال له‬ ‫َ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم: {قَال الَ تَـثْـريب علَيْكم الْيَـوم يَـغفر اللّهُ لَكم وهو أَرحم‬ ‫ُ ْ َ َُ ْ َ ُ‬ ‫َ َ َ ُ ُ َْ ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫ِِ‬ ‫الرامحني} [يوسف:29]، فأنشده أبو سفيان أبياتاً منها:‬ ‫َّ َ‬ ‫َ َّ ْ ِ‬ ‫فضرب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم صدره وقال: (أنت طَردتَين كل مطَرد؟).‬ ‫ُ َّ‬
  • 51. ‫اجليش اإلسالمي ينزل مبَر الظَّهران‬ ‫ِّ ْ َ‬ ‫‪‬‬ ‫وواصل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم سريه وهو صائم، والناس صيام، حىت بلغ الكديْد ـ وهو ماء بني عسفان وقُديْد‬ ‫َ‬ ‫ُ َْ‬ ‫َُ‬ ‫ـ فأفطر، وأفطر الناس معه. مث واصل سريه حىت نزل مبر الظهران ـ وادي فاطمة ـ نزله عشاء، فأمر اجليش، فأوقدوا‬ ‫النريان، فأوقدت عشرة آالف نار، وجعل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على احلرس عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه‬ ‫أبو سفيان بني يدي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬ ‫كب العباس ـ بعد نزول املسلمني مبر الظهران ـ بغلة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم البيضاء، ج يلتمس، لعله جيد‬ ‫وخر‬ ‫ور‬ ‫بعض احلَطَّابة أو أحداً خيرب قريشاً ليخرجوا يستأمنون رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قبل أن يدخلها.‬ ‫خير‬ ‫و‬ ‫َ ٍَ‬ ‫كان اهلل قد عمي األخبار عن قريش، فهم على وجل وترقب، كان أبو سفيان ج يتجسس األخبار، فكان قد‬ ‫و‬ ‫ج هو وحكيم بن حزام، وبديل بن ورقاء يتجسسون األخبار.‬ ‫خر‬ ‫قال العباس: واهلل إين ألسري عليها ـ أي على بغلة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ـ إذ مسعت كالم أيب سفيان وبديل‬ ‫بن ورقاء، ومها يرتاجعان، وأبو سفيان يقول: ما رأيت كالليلة نرياناً قط وال عسكراً. قال: يقول بديل: هذه واهلل‬ ‫خزاعة، محَشْتها احلرب، فيقول أبو سفيان: خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نرياهنا وعسكرها.‬ ‫َ َ‬ ‫قال العباس: فعرفت صوته، فقلت: أبا حْنظَلَة؟ فعرف صويت، فقال: أبا الفضل؟ قلت: نعم. قال: مالك؟ فداك أيب‬ ‫َ‬ ‫وأمي. قلت: هذا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف الناس، واصباح قريش واهلل.‬ ‫قال: فما احليلة فداك أيب وأمي؟، قلت: واهلل لئن ظفر بك ليضربن عنقك، كب يف عجز هذه البغلة، حىت آيت بك‬ ‫فار‬ ‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فأستأمنه لك، كب خلفي، ورجع صاحباه.‬ ‫فر‬
  • 52. ‫قال: فجئت به، فكلما مررت به على نار من نريان املسلمني، قالوا: من هذا؟ فإذا رأوا بغلة رسول اهلل صلى اهلل عليه‬ ‫‪‬‬ ‫وسلم وأنا عليها قالوا: عم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على بغلته. حىت مررت بنار عمر بن اخلطاب فقال: من‬ ‫هذا؟ وقام إىل، فلما رأي أبا سفيان على عجز الدابة قال: أبو سفيان، عدو اهلل؟ احلمد هلل الذي أمكن منك بغري‬ ‫عقد وال عهد، مث ج يشتد حنو رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم، كضت البغلة فسبقت، فاقتحمت عن البغلة،‬ ‫ور ُ‬ ‫خر‬ ‫فدخلت على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم، ودخل عليه عمر، فقال: يا رسول اهلل، هذا أبو سفيان فدعين أضرب‬ ‫عنقه، قال: قلت: يا رسول اهلل، إين قد أجرته، مث جلست إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فأخذت برأسه، فقلت:‬ ‫واهلل ال يناجيه الليلة أحد دوين، فلما أكثر عمر يف شأنه قلت: مهالً يا عمر، فواهلل لو كان من رجال بين عدي بن‬ ‫كعب ما قلت مثل هذا، قال: مهالً يا عباس، فواهلل إلسالمك كان أحب إىل من إسالم اخلطاب، لو أسلم، وما يب‬ ‫إال أين قد عرفت أن إسالمك كان أحب إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من إسالم اخلطاب.‬ ‫فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم: (اذهب به يا عباس إىل رحلك، فإذا أصبحت فأتين به)، فذهبت، فلما‬ ‫أصبحت غدوت به إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم، فلما رآه قال: (وحيك يا أبا سفيان، أمل يأن لك أن تعلم أن‬ ‫ال إله إال اهلل؟) قال: بأيب أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك؟ لقد ظننت أن لو كان مع اهلل إله غريه لقد أغين‬ ‫عين شيئاً بعد.‬ ‫قال: (وحيك يا أبا سفيان، أمل يأن لك أن تعلم أين رسول اهلل؟)، قال: بأيب أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك‬ ‫وأوصلك: أما هذه فإن يف النفس حىت اآلن منها شيء. فقال له العباس: وحيك أسلم، واشهد أن ال إله إال اهلل، وأن‬ ‫حممداً رسول اهلل، قبل أن تضرب عنقك، فأسلم وشهد شهادة احلق.‬
  • 53. ‫قال العباس: يا رسول اهلل، إن أبا سفيان رجل حيب الفخر فاجعل له شيئاً. قال: (نعم، من دخل دار أيب سفيان فهو‬ ‫‪‬‬ ‫آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل املسجد احلرام فهو آمن).‬ ‫اجليش اإلسالمي يغادر مر الظهران إىل مكة‬ ‫ويف هذا الصباح ـ صباح يوم الثالثاء للسابع عشر من شهر رمضان سنة 8 هـ ـ غادر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬ ‫َ ِ‬ ‫مر الظهران إىل مكة، وأمر العباس أن حيبس أبا سفيان مبضيق الوادي عند خطْم اجلبل، حىت متر به جنود اهلل فرياها،‬ ‫ففعل، فمرت القبائل على راياهتا، كلما مرت به قبيلة قال: يا عباس، من هذه؟ فيقول ـ مثال ـ سليم، فيقول: مإىل‬ ‫ولِسلَْيم؟ مث متر به القبيلة فيقول: يا عباس، من هؤالء؟ فيقول: مزيْـنَة، فيقول: ما يل وملزينة؟ حىت نفذت القبائل، ما متر‬ ‫َُ‬ ‫ُ‬ ‫به قبيلة إال سأل العباس عنها، فإذا أخربه قال: مايل ولبين فالن؟ حىت مر به رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف كتيبته‬ ‫اخلضراء، فيها املهاجرون واألنصار، ال يري منهم إال احلَدق من احلديد، قال: سبحان اهلل! يا عباس، من هؤالء؟ قال:‬ ‫َ‬ ‫هذا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف املهاجرين واألنصار، قال: ما ألحد هبؤالء قِبَل وال طاقة. مث قال: واهلل يا أبا‬ ‫ٌ‬ ‫الفضل، لقد أصبح م ْلك ابن أخيك اليوم عظيماً. قال العباس: يا أبا سفيان، إهنا النبوة، قال: فنعم إذن.‬ ‫ُ ُ‬ ‫كانت راية األنصار مع سعد بن عبادة، فلما مر بأيب سفيان قال له: اليوم يوم امللحمة، اليوم تُستَحل احلُْرمة، اليـوم‬ ‫ْ َ ُّ َ‬ ‫و‬ ‫أذل اهلل قـريشاً. فلما حـاذي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أبا سفيان قال: يا رسول اهلل، أمل تسمع ما قال سعد؟‬ ‫قال: (وما قال؟) فقال: قال كذا كذا. فقال عثمان وعبد الرمحن بن عوف: يا رسول اهلل، ما نأمن أن يكون له يف‬ ‫و‬ ‫قريش صولة، فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم: (بل اليوم يوم تـُعظَّم فيه الكعبة، اليوم يوم أعز اهلل فيه قريشاً) مث‬ ‫َ‬ ‫أرسل إىل سعد ع منه اللواء، ودفعه إىل ابنه قيس، ورأي أن اللواء مل ج عن سعد. وقيل: بل دفعه إىل الزبري.‬ ‫خير‬ ‫فنز‬
  • 54. ‫قريش تباغت زحف اجليش اإلسالمي‬ ‫‪‬‬ ‫وملا مر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بأيب سفيان ومضي قال له العباس: النجاء إىل قومك. ع أبو سفيان حىت‬ ‫فأسر‬ ‫دخل مكة، خ بأعلى صوته: يا معشر قريش، هذا حممد، قد جاءكم فيما ال قبل لكم به. فمن دخل دار أيب‬ ‫وصر‬ ‫َميت الدسم األمخش الساقني،‬ ‫سفيان فهو آمن. فقامت إليه زوجته هند بنت عتبة فأخذت بشاربه فقالت: اقتلوا احل ِ‬ ‫قُـبِّح من طَلِيعة قوم.‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫قال أبو سفيان: ويلكم، التغرنكم هذه من أنفسكم، فإنه قد جاءكم مبا ال قبل لكم به، فمن دخل دار أيب سفيان‬ ‫فهو آمن. قالوا: قاتلك اهلل، وما تغين عنا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل املسجد فهو آمن.‬ ‫فتفرق الناس إىل دورهم وإىل املسجد، ووبشوا أوباشاً هلم، وقالوا: نقدم هؤالء، فإن كان لقريش شيء كنا معهم، وإن‬ ‫ِف‬ ‫أصيبوا أعطينا الذي سئلنا. فتجمع سفهاء قريش وأخ َّاؤها مع عكرمة بن أيب جهل، وصفوان بن أمية، وسهيل بن‬ ‫ِ‬ ‫عمرو باخلَْندمة ليقاتلوا املسلمني. كان فيهم رجل من بين بكر ـ محَاس بن قيس ـ كان يعد قبل ذلك سالحاً، فقالت‬ ‫و‬ ‫ََ‬ ‫له امرأته: ملاذا تعد ما أري؟ قال: حملمد وأصحابه. قالت: واهلل ما يقوم حملمد وأصحابه شيء. قال: إين واهلل ألرجو أن‬ ‫أخدمك بعضهم، مث قال:‬ ‫ِ‬ ‫إن يقبلوا اليوم فمايل علَّه ** هــذا ســالح كامــل وألَّه‬ ‫ِ‬ ‫وذو غراريْن سريع السلَّة **‬ ‫َّ‬ ‫ََ‬ ‫فكان هذا الرجل فيمن اجتمعوا يف اخلندمة.‬
  • 55. ‫اجليش اإلسالمي بذي طُوى‬ ‫َ‬ ‫‪‬‬ ‫أما رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فمضي حىت انتهي إىل ذي طوي ـ كان يضع رأسه تواضعاً هلل حني رأي ما أكرمه‬ ‫و‬ ‫ِ‬ ‫اهلل به من الفتح، حىت أن شعر حليته ليكاد ْيس واسطة الرحل ـ وهناك ع جيشه، كان خالد بن الوليد على املجنَّبَة‬ ‫و‬ ‫وز‬ ‫َُ‬ ‫ِ‬ ‫اليمين ـ وفيها أسلَم وسلَْيم وغفار ومزيْـنَة وجهْيـنَة وقبائل من قبائل العرب ـ فأمره أن يدخل مكة من أسفلها،‬ ‫َ َُ ُ َ‬ ‫ْ ُ ُ‬ ‫وقال: (إن عرض لكم أحد من قريش فاحصدوهم حصداً، حىت توافوين على الصفا).‬ ‫و‬ ‫ِ‬ ‫كان الزبري بن العوام على املجنَّبَة اليسري، كان معه راية رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم، فأمره أن يدخل مكة من‬ ‫و‬ ‫َُ‬ ‫أعالها ـ من كداء ـ وأن يغرز رايته باحلَجون، وال يربح حىت يأتيه.‬ ‫ُ‬ ‫ََ‬ ‫كان أبو عبيدة على الرجالة واحلُسر ـ وهم الذمي السالح معهم ـ فأمره أن يأخذ بطن الوادي حىت ينصب ملكة بني‬ ‫َّ‬ ‫و‬ ‫يدي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم.‬ ‫اجليش اإلسالمي يدخل مكة‬ ‫كت كل كتيبة من اجليش اإلسالمي على الطريق اليت كلفت الدخول منها.‬ ‫وحتر‬ ‫ِْ‬ ‫فأما خالد وأصحابه فلم يلقهم أحد من كني إال أناموه. وقتل من أصحابه من املسلمني كرز بن جابر ِ‬ ‫الفهري‬ ‫املشر‬ ‫ُْ‬ ‫وخنَـْيس بن خالد بن ربيعة. كانا قد شذا عن اجليش، فسلكا طريقاً غري طريقه فقتال مجيعاً، وأما سفهاء قريش فلقيهم‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫خالد وأصحابه باخلَْندمة فناوشوهم شيئا من قتال، فأصابوا من كني اثين عشر رجالً، فاهنزم كون، واهنزم محَاس‬ ‫املشر‬ ‫املشر‬ ‫ََ‬ ‫بن قيس ـ الذي كان يعد السالح لقتال املسلمني ـ حىت دخل بيته، فقال المرأته: أغلقي على بايب.‬ ‫فقالت: وأين ما كنت تقول؟ فقال:‬
  • 56. ‫وأقبل خالد جيوس مكة حىت واىف رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على الصفا.‬ ‫‪‬‬ ‫وأما الزبري فتقدم حىت نصب راية رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم باحلَجون عند مسجد الفتح، وضرب له هناك قبة، فلم يربح حىت‬ ‫ُ‬ ‫جاءه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم.‬ ‫الرسول صلى اهلل عليه وسلم يدخل املسجد احلرام ويطهره من األصنام‬ ‫مث هنض رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم، واملهاجرون واألنصار بني يديه وخلفه وحوله، حىت دخل املسجد، فأقبل إىل احلجر‬ ‫األسود، فاستلمه، مث طاف بالبيت، ويف يده قوس، وحول البيت ثالمثائة وستون صنما، فجعل يطعنها بالقوس، ويقول: {جاء احلَق‬ ‫َ ْ ُّ‬ ‫ِ‬ ‫وزهق الْبَاطل إِن الْبَاطل كان زهوقًا}[اإلسراء:18]، {قُل جاء احلَق وما يـُْبدئ الْبَاطل وما يُعِيد} [سبأ:94] واألصنام تتساقط على‬ ‫ُ ِ ُ ََ ُ‬ ‫ْ َ ْ ُّ َ َ‬ ‫َ َ َ َُ‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ُ‬ ‫ََ َ َ‬ ‫وجوهها.‬ ‫كان طوافه على راحلته، مل يكن حمرماً يومئذ، فاقتصر على الطواف، فلما أكمله دعا عثمان بن طلحة، فأخذ منه مفتاح الكعبة،‬ ‫و‬ ‫و‬ ‫فأمر هبا ففتحت فدخلها، فرأي فيها الصور، ورأي فيها صورة إبراهيم، وإمساعيل ـ عليهما السالم ـ يستقسمان باألزالم،‬ ‫فقال: (قاتلهم اهلل، واهلل ما استقسما هبا قط). ورأي يف الكعبة محامة من عيدان، فكسرها بيده، وأمر بالصور فمحيت.‬ ‫الرسول صلى اهلل عليه وسلم يصلي يف الكعبة مث خيطب أمام قريش‬ ‫مث أغلق عليه الباب، وعلى أسامة وبالل، فاستقبل اجلدار الذي يقابل الباب حىت إذا كان بينه وبينه ثالثة ع وقف، وجعل‬ ‫أذر‬ ‫عمودين عن يساره، وعموداً عن ْيينه، وثالثة أعمدة وراءه ـ كان البيت يومئذ على ستة أعمدة ـ مث صلي هناك. مث دار يف البيت،‬ ‫و‬ ‫كرب يف نواحيه، ووحد اهلل، مث فتح الباب، وقريش قد مألت املسجد صفوفاً ينتظرون ماذا يصنع؟ فأخذ بعضاديت الباب وهم حتته،‬ ‫و‬ ‫فقال:‬ ‫(ال إله إال اهلل وحده ال شريك له، صدق وعده، ونصر عبده، وهزم األحزاب وحده، أال كل مأثـُرة أو مال أو دم فهو حتت قدمي‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َِ‬ ‫هاتني، إال سدانَة البيت وسقاية احلاج، أالوقتيل اخلطأ شبه العمد ـ السوط والعصا ـ ففيه الدية مغلظة، مائة من اإلبل أربعون منها‬ ‫يف بطوهنا أوالد.‬
  • 57. ‫يا معشر قريش إن اهلل قد أذهب عنكم خنوة اجلاهلية وتعظمها باآلباء، الناس من آدم، وآدم من تراب مث تال هذه اآلية: {يا أيها‬ ‫‪‬‬ ‫الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند اهلل أتقاكم إن اهلل عليم خبري}.‬ ‫ال تثريب عليكم اليوم‬ ‫مث قال: (يا معشر قريش ما ترون أين فاعل بكم؟) قالوا: خريا، أخ كرمي وابن أخ كرمي، قال: (فإين أقول لكم كما قال يوسف‬ ‫ً‬ ‫إلخوته: {الَ تَـثْـريب علَْيكم} اذهبوا فأنتم الطلقاء).‬ ‫َ َ َ ُُ‬ ‫مفتاح البيت إىل أهله‬ ‫مث جلس رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف املسجد فقام إليه علي رضي اهلل عنه ومفتاح الكعبة يف يده فقال: امجع لنا احلجابة مع‬ ‫السقاية، صلى اهلل عليك ـ ويف رواية أن الذي قال ذلك هو العباس ـ فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم: (أين عثمان بن‬ ‫طلحة؟). فدعي له، فقال له: (هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء)، ويف رواية ابن سعد يف الطبقات أنه قال له حني دفع‬ ‫املفتاح إليه: (خذوها خالدة تالدة، ال ينزعها منكم إال ظامل، يا عثمان إن اهلل استأمنكم على بيته، فكلوا مما يصل إليكم من هذا‬ ‫البيت باملعروف).‬ ‫بالل يؤذن على الكعبة‬ ‫وحانت الصالة، فأمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بالال أن يصعد فيؤذن على الكعبة، وأبو سفيان بن حرب، وعتاب بن أسيد،‬ ‫واحلارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة، فقال عتاب: لقد أكرم اهلل أسيدا أال يكون مسع هذا، فيسمع منه ما يغيظه. فقال احلارث:‬ ‫أما واهلل لو أعلم أنه حق التبعته. فقال أبو سفيان: أما واهلل ال أقول شيئًا، لو تكلمت ألخربت عين هذه احلصباء. ج عليهم‬ ‫فخر‬ ‫النيب صلى اهلل عليه وسلم فقال هلم: (لقد علمت الذي قلتم) مث ذكر ذلك هلم.‬ ‫فقال احلارث وعتاب: نشهد أنك رسول اهلل، واهلل ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخربك.‬
  • 58. ‫خطبة الرسول صلى اهلل عليه وسلم الثاين من الفتح:‬ ‫‪‬‬ ‫وملا كان الغد من يوم الفتح قام رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف الناس خطيباً، فحمد اهلل، وأثىن عليه،‬ ‫وجمده مبا هو أهله، مث قال: (أيها الناس، إن اهلل حرم مكة يوم خلق السموات واألرض، فهي حرام حبرمة اهلل‬ ‫إىل يوم القيامة، فال حيل المرئ يؤمن باهلل واليوم اآلخر أن يسفك فيها دماً، أو يعضد هبا شجرة، فإن أحد‬ ‫ترخص لقتال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقولوا: إن اهلل أذن لرسولة ومل يأذن لكم، وإمنا حلت يل ساعة‬ ‫من هنار، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها باألمس، فليبلغ الشاهد الغائب).‬ ‫ويف رواية: (ال يعضد كه، وال ينفر صيده وال تلتقط ساقطته إال من عرفها، وال خيتلى خاله)، فقال‬ ‫شو‬ ‫العباس: يا رسول اهلل، إال اإلذخر، فإنه لقينهم وبيوهتم، فقال: (إال اإلذخر).‬ ‫كانت خزاعة قتلت يومئذ رجال من بىن ليث بقتيل هلم يف اجلاهلية، فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬ ‫و‬ ‫هبذا الصدد: ( يا معشر خزاعة، ارفعو أيديكم عن القتل، فلقد كثر القتل إن نفع، ولقد قتلتم قتياال ألدينه،‬ ‫فمن قتل بعد مقامي هذا فأهله خبري النظرين، إن شاءوا فدم قاتله، وإن شاءوا فعقله).‬ ‫ويف رواية: فقام رجل من أهل اليمن يقال له: شاه فقال: اكتب يل يا رسول اهلل، فقال رسول اهلل صلى اهلل‬ ‫عليه وسلم: (اكتبو أليب شاه).‬
  • 59. ‫كانت هناك قوة تعرضت للمسلمني من غري مربر، وهي قوة الرومان ـ أكرب قوة عسكرية ظهرت‬ ‫‪‬‬ ‫على وجه األرض يف ذلك الزمان ـ وقد عرفنا فيما تقدم أن بداية هذا التعرض كانت بقتل سفري‬ ‫رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم ـ احلارث بن عمري األزدي ـ على يدي شرحبِيل بن عمرو الغساين،‬ ‫َُ ْ‬ ‫حينما كان السفري حيمل رسالة النيب صلى اهلل عليه وسلم إىل عظيم بُصري، وأن النيب صلى اهلل‬ ‫َْ‬ ‫عليه وسلم أرسل بعد ذلك سرية زيد بن حارثة اليت اصطدمت بالرومان اصطداماً عنيفاً يف مؤتة،‬ ‫مل تنجح يف أخذ الثأر من أولئك الظاملني املتغطرسني، إال أهنا كت أروع أثر يف نفوس العرب،‬ ‫تر‬ ‫و‬ ‫قريبهم وبعيدهم.‬ ‫مل يكن قيصر ليصرف نظره عما كان كة مؤتة من األثر الكبري لصاحل املسلمني، وعما كان‬ ‫ملعر‬ ‫و‬ ‫يطمح إليه بعد ذلك كثري من قبائل العرب من استقالهلم عن قيصر، ومواطأهتم للمسلمني، إن‬ ‫هذا كان خطراً يتقدم وخيطو إىل حدوده خطوة بعد خطوة، ويهدد الثغور الشامية اليت جتاور‬ ‫العرب، فكان يري أن القضاء جيب على قوة املسلمني قبل أن تتجسد يف صورة خطر عظيم ال‬ ‫ْيكن القضاء عليها، وقبل أن تثري القالقل والثورات يف املناطق العربية اجملاورة للرومان.‬ ‫ونظراً إىل هذه املصاحل، مل يقض قيصر بعد كة مؤتة سنة كاملة حىت أخذ يهيئ اجليش مـن‬ ‫معر‬ ‫الرومـان والعرب التابعة هلم من آل غسان وغريهم، وبدأ جيهز كة دامية فاصلة.‬ ‫ملعر‬
  • 60. ‫األخبار العامة عن استعداد الرومان وغسان‬ ‫َ َّ‬ ‫‪‬‬ ‫كانت األنباء ترتامي إىل املدينة بإعداد الرومان ؛ للقيام بغزوة حامسة ضد املسلمني، حىت‬‫و‬ ‫كان اخلوف يتسورهم كل حني، ال يسمعون صوتاً غري معتاد إال ويظنونه زحف‬ ‫الرومان.ويظهر ذلك جلياً مما وقع لعمر بن اخلطاب، فقد كان النيب صلى اهلل عليه وسلم‬ ‫إىل من نسائه شهراً يف هذه السنة ـ 9هـ ـ كان هجرهن واعتزل عنهن يف مشربة له ، ومل‬ ‫و‬ ‫يفطن الصحابة إىل حقيقة األمر يف بدايته، فظنوا أن النيب صلى اهلل عليه وسلم طلقهن،‬ ‫فسري فيهم اهلم واحلزن والقلق. يقول عمر بن اخلطاب ـ وهو يروي هذه القصة: كان يل‬ ‫و‬ ‫صاحب من األنصار إذا غبت أتاين باخلرب، وإذا غاب كنت آتية أنا باخلرب ـ كانا يسكنان‬ ‫و‬ ‫يف عواىل املدينة، يتناوبان إىل النيب صلى اهلل عليه وسلم ـ وحنن نتخوف ملكاً من ملوك‬ ‫غسان ذكر لنا أنه يريد أن يسري إلينا، فقد امتألت صدورنا منه، فإذا صاحيب األنصاري‬ ‫يدق الباب، فقال: افتح، افتح، فقلت: جاء الغساين؟ فقال: بل أشد من ذلك، اعتزل‬ ‫رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم أزواجه... احلديث.‬
  • 61. ‫وهذا يدل على خطورة املوقف، الذي كان يواجهه املسلمون بالنسبة إىل الرومان، ويزيد‬ ‫‪‬‬ ‫ذلك تأكداً ما فعله املنافقون حينما نقلت إىل املدينة أخبار إعداد الرومان، فربغم ما رآه‬ ‫هؤالء املنافقون من جناح رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم يف كل امليادين، وأنه ال يوجل من‬ ‫سلطان على ظهر األرض، بل يذيب كل ما يعرتض يف طريقه من عوائق ـ برغم هذا كله ـ‬ ‫طفق هؤالء املنافقون يأملون يف حتقق ما كانوا خيفونه يف صدورهم، وما كانوا يرتبصونه من‬ ‫الشر باإلسالم وأهله. ونظراً إىل قرب حتقق آماهلم أنشأوا كرة للدس والتآمر، يف صورة‬ ‫و‬ ‫مسجد، وهو مسجد الضرار، أسسوه كفراً وتفريقاً بني املؤمنني وإرصاداً ملن حارب اللّه‬ ‫ِّ َ‬ ‫ورسوله، وعرضوا على رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم أن يصلي فيه، وإمنا مرامهم بذلك‬ ‫أن خيدعوا املؤمنني فال يفطنوا ما يؤيت به يف هذا املسجد من الدس واملؤامرة ضدهم، وال‬ ‫يلتفتوا إىل من يرده ويصدر عنه، فيصري كرة مأمونة هلؤالء املنافقني ولرفقائهم يف ج،‬ ‫اخلار‬ ‫و‬ ‫ولكن رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم أخر الصالة فيه ـ إىل قفوله من الغزوة ـ لشغله‬ ‫باجلهاز، ففشلوا يف مرامهم وفضحهم اللّه، حىت قام الرسول صلى اهلل عليه وسلم هبدم‬ ‫املسجد بعد القفول من الغزو، بدل أن يصلي فيه‬
  • 62. ‫وهذا يدل على خطورة املوقف، الذي كان يواجهه املسلمون بالنسبة إىل الرومان، ويزيد‬ ‫‪‬‬ ‫ذلك تأكداً ما فعله املنافقون حينما نقلت إىل املدينة أخبار إعداد الرومان، فربغم ما رآه‬ ‫هؤالء املنافقون من جناح رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم يف كل امليادين، وأنه ال يوجل من‬ ‫سلطان على ظهر األرض، بل يذيب كل ما يعرتض يف طريقه من عوائق ـ برغم هذا كله ـ‬ ‫طفق هؤالء املنافقون يأملون يف حتقق ما كانوا خيفونه يف صدورهم، وما كانوا يرتبصونه من‬ ‫الشر باإلسالم وأهله. ونظراً إىل قرب حتقق آماهلم أنشأوا كرة للدس والتآمر، يف صورة‬ ‫و‬ ‫مسجد، وهو مسجد الضرار، أسسوه كفراً وتفريقاً بني املؤمنني وإرصاداً ملن حارب اللّه‬ ‫ِّ َ‬ ‫ورسوله، وعرضوا على رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم أن يصلي فيه، وإمنا مرامهم بذلك‬ ‫أن خيدعوا املؤمنني فال يفطنوا ما يؤيت به يف هذا املسجد من الدس واملؤامرة ضدهم، وال‬ ‫يلتفتوا إىل من يرده ويصدر عنه، فيصري كرة مأمونة هلؤالء املنافقني ولرفقائهم يف ج،‬ ‫اخلار‬ ‫و‬ ‫ولكن رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم أخر الصالة فيه ـ إىل قفوله من الغزوة ـ لشغله‬ ‫باجلهاز، ففشلوا يف مرامهم وفضحهم اللّه، حىت قام الرسول صلى اهلل عليه وسلم هبدم‬ ‫املسجد بعد القفول من الغزو، بدل أن يصلي فيه‬
  • 63. ‫الرسول صلى اهلل عليه وسلم يقرر القيام بإقدام حاسم‬ ‫‪‬‬ ‫ولكن الرسول صلى اهلل عليه وسلم كان ينظر إىل الظروف والتطورات بنظر أدق وأحكم من هذا كله، إنه كان يري أنه‬ ‫لو تواين وتكاسل عن غزو الرومان يف هذه الظروف احلامسة، وترك الرومان لتجوس خالل املناطق اليت كانت حتت‬ ‫سيطرة اإلسالم ونفوذه، وتزحف إىل املدينة كان له أسوأ أثر على الدعوة اإلسالمية وعلى مسعة املسلمني العسكرية،‬ ‫فاجلاهلية اليت تلفظ نفسها األخري بعد ما لقيت من الضربة القاصمة يف حنني ستحيا مرة أخري، واملنافقون الذين‬ ‫يرتبصون الدوائر باملسلمني، ويتصلون مبلك الرومان بواسطة أيب عامر الفاسق سيبعجون بطون املسلمني خبناجرهم من‬ ‫اخللف، يف حني هتجم الرومان حبملة ضارية ضد املسلمني من األمام، وهكذا خيفق كثري من اجلهود اليت بذهلا هو‬ ‫أصحابه يف نشر اإلسالم، وتذهب املكاسب اليت حصلوا عليها بعد حروب دامية ودوريات عسكرية متتابعة‬ ‫متواصلة... تذهب هذه املكاسب بغري جدوي.‬ ‫كان رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم يعرف كل ذلك جيداً، ولذلك قرر القيام ـ مع ما كان فيه من العسرة والشدة ـ‬ ‫بغزوة فاصلة خيوضها املسلمون ضد الرومان يف حدودهم، وال ْيهلوهنم حىت يزحفوا إىل دار اإلسالم.‬ ‫اإلعالن بالتهيؤ لقتال الرومان‬ ‫وملا قرر الرسول صلى اهلل عليه وسلم املوقف أعلن يف الصحابة أن يتجهزوا للقتال، وبعث إىل القبائل من العرب وإىل‬ ‫أهل مكة يستنفرهم. كان قل ما يريد غزوة يغزوها إال وري بغريها، ولكنه نظراً إىل خطورة املوقف وإىل شدة العسرة‬ ‫َ َّ‬ ‫و‬ ‫أعلن أنه يريد لقاء الرومان، وجلي للناس أمرهم ؛ ليتأهبوا أهبة كاملة، وحضهم على اجلهاد، ونزلت قطعة من سورة‬ ‫براءة تثريهم على اجلالد، وحتثهم على القتال، ورغبهم رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم يف بذل الصدقات، وإنفاق‬ ‫كرائم األموال يف سبيل اللّه.‬
  • 64. ‫املسلمون يتسابقون إىل التجهز للغزو‬ ‫‪‬‬ ‫ومل يكن من املسلمني أن مسعوا صوت رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم يدعو إىل قتال الروم إال وتسابقوا إىل امتثاله،‬ ‫فقاموا يتجهزون للقتال بسرعة بالغة، وأخذت القبائل والبطون هتبط إىل املدينة من كل صوب وناحية، ومل يرض أحد‬ ‫من املسلمني أن يتخلف عن هذه الغزوة ـ إال الذين يف قلوهبم مرض وإال ثالثة نفر ـ حىت كان جييء أهل احلاجة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫والفاقة يستحملون رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم ؛ ليخرجوا إىل قتال الروم، فإذا قال هلم: {الَ أَجد ما أَمحلُكم علَْيه‬ ‫ُ َ ْ ُْ َ‬ ‫َِ ُ َ ِ ُ َ‬ ‫ِ ِ‬ ‫تَـولَّواْ وأَعيُـنُـهم تَفيض من َّمع حزنًا أَالَّ جيدواْ ما يُنفقون} [التوبة:29].‬ ‫ُ َ الد ْ ِ َ َ‬ ‫َ َّ ْ ُ ْ‬ ‫كما تسابق املسلمون يف إنفاق األموال وبذل الصدقات، كان عثمان بن عفان قد جهز عرياً للشام، مائتا بعري بأقتاهبا‬ ‫وأحالسها، ومائتا أوقية، فتصدق هبا، مث تصدق مبائة بعري بأحالسها وأقتاهبا، مث جاء بألف دينار فنثرها يف حجره‬ ‫صلى اهلل عليه وسلم، فكان رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم يقلبها ويقول: (ما ضر عثمان ما عمل بعد اليوم) ، مث‬ ‫َ َّ‬ ‫تصدق وتصدق حىت بلغ مقدار صدقته تسعمائة بعري ومائة فرس سوى النقود.‬ ‫وجاء عبد الرمحن بن عوف مبائيت أوقية فضة، وجاء أبو بكر مباله كلّه ومل يرتك ألهله إال اللّه ورسوله ـ كانت أربعة‬ ‫و‬ ‫آالف درهم ـ وهو أول من جاء بصدقته. وجاء عمر بنصف ماله، وجاء العباس مبال كثري، وجاء طلحة وسعد بن‬ ‫عبادة وحممد بن مسلمة، كلهم جاءوا مبال. وجاء عاصم بن عدي بتسعني وسقا من التمر، وتتابع الناس بصدقاهتم‬ ‫َ ًْ‬ ‫قليلها كثريها، حىت كان منهم من أنفق مدا أو مدين مل يكن يستطيع غريها. وبعثت النساء ما قدرن عليه من مسك‬ ‫ََ‬ ‫ُّ‬ ‫و‬ ‫ومعاضد وخالخل وقُـرط وخوامت.‬ ‫ومل ْيسك أحد يده، ْومل يبخل مباله إال املنافقون {الَّذين يـ ْلمزون الْمطَّوعني من الْمؤمنِني ِيف الصدقَات والَّ ِ‬ ‫َ ذين الَ‬ ‫َّ َ ِ‬ ‫ِْ‬ ‫ِّ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ََ ُ َ ُ َ َ ُ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫جيدون إِالَّ جهدهم فَـيَسخرون مْنـهم}[التوبة: 97].‬ ‫َ ُ َ ُ ْ َ ُ ْ ْ َُ َ ُ ْ‬
  • 65. ‫اجليش اإلسالمي إىل تبوك‬ ‫‪‬‬ ‫ِ‬ ‫وهكذا جتهز اجليش، فاستعمل رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم على املدينة حممد بن مسلمة األنصاري، وقيل: سبَاع بن عرفُطَة،‬ ‫ُْ َ‬ ‫وخلف على أهله على بن أيب طالب، وأمره باإلقامة فيهم، وغمص عليه املنافقون، ج فلحق برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم،‬ ‫فخر‬ ‫ََ َ‬ ‫فرده إىل املدينة وقال: (أال ترضى أن تكون مين مبنزلة هارون من موسي، إال أنه ال نيب بعدي).‬ ‫وحترك رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم يوم اخلميس حنو الشمال يريد تبوك، ولكن اجليش كان كبرياً ـ ثالثون ألف مقاتل، مل ج‬ ‫خير‬ ‫املسلمون يف مثل هذا اجلمع الكبري قبله قط ـ فلم يستطع املسلمون مع ما بذلوه من األموال أن جيهزوه جتهيزاًكامالً، بل كانت يف‬ ‫اجليش قلة شديدة بالنسبة إىل الزاد واملراكب، فكان مثانية عشر رجالً يعتقبون بعرياً واحداً، ورمبا أكلوا أوراق األشجار حىت تورمت‬ ‫ُ ِ‬ ‫شفاههم، واضطروا إىل ذبح البعري ـ مع قلتها ـ ليشربوا ما يف كرشه من املاء، ولذلك مسي هذا اجليش جيش العسرة.‬ ‫َْ‬ ‫ومر اجليش اإلسالمي يف طريقه إىل تبوك باحلِجر ـ ديار مثود الذين جابوا الصخر بالواد، أي وادي القرى ـ فاستقي الناس من بئرها،‬ ‫َُ‬ ‫ْ‬ ‫فلما راحوا قال رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم: (ال تشربوا من مائها وال تتوضأوا منه للصالة، وما كان من عجني عجنتموه‬ ‫فاعلفوه اإلبل، وال تأكلوا منه شيئاً)، وأمرهم أن يستقوا من البئر اليت كانت تردها ناقة صاحل رسول اهلل.‬ ‫ويف الصحيحني عن ابن عمر قال: ملا مر النيب صلى اهلل عليه وسلم باحلجر قال: (ال تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم أن‬ ‫يصيبكم ما أصاهبم إال أن تكونوا باكني)، مث قَنع رأسه و ع بالسري حىت جاز الوادي.‬ ‫أسر‬ ‫َ‬ ‫واشتدت يف الطريق حاجة اجليش إىل املاء حىت شكوا إىل رسول اللّه، فدعا اللّه، فأرسل اللّه سحابة فأمطرت حىت ارتوي الناس،‬ ‫واحتملوا حاجاهتم من املاء.‬
  • 66. ‫وملا قرب من تبوك قال: (إنكم ستأتون غداً إن شاء اللّه تعاىل عني تبوك، وإنكم لن تأتوها حىت يَضحي النهار، فمن جاءها فال ْيس من مائها شيئاً حىت‬ ‫َْ‬ ‫‪‬‬ ‫آيت)، قال معاذ: فجئنا وقد سبق إليها رجالن، والعني تَبِض بشيء من مائها، فسأهلما رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم: (هل مسستما من مائها شيئاً؟)‬ ‫ُّ‬ ‫قاال: نعم. وقال هلما ما شاء اللّه أن يقول. مث غرف من العني قليالً قليالً حىت اجتمع الْوشل ، مث غسل رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم فيه وجهه ويده،‬ ‫ََ ُ‬ ‫مث أعاده فيها فجرت العني مباء كثري، فاستقي الناس، مث قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم: (يوشك يا معاذ، إن طالت بك حياة أن تري ماهاهنا قد‬ ‫ملئ جناناً).‬ ‫ويف الطريق أو ملا بلغ تبوك ـ على اختالف الروايات ـ قال رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم: (هتب عليكم الليلة ريح شديدة، فال يقم أحد منكم، فمن كان‬ ‫َِ‬ ‫له بعري فليشد عقالَه)، فهبت ريح شديدة، فقام رجل فحملته الريح حىت ألقته جببلي طيئ.‬ ‫كليهما.‬ ‫كان دأب رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم يف الطريق أنه كان جيمع بني الظهر والعصر، وبني املغرب والعشاء مجع التقدمي ومجع التأخري‬ ‫و‬ ‫اجليش اإلسالمي بتبوك‬ ‫نزل اجليش اإلسالمي بتبوك، فعسكر هناك، وهو مستعد للقاء العدو، وقام رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم فيهم خطيباً، فخطب خطبة بليغة، أيت جبوامع‬ ‫الكلم، وحض على خري الدنيا واآلخرة، وحذر وأنذر، وبشر وأبشر، حىت رفع معنوياهتم، وجرب هبا ما كان فيهم من النقص واخللل من حيث قلة الزاد‬ ‫واملادة واملؤنة. وأما الرومان وحلفاؤهم فلما مسعوا بزحف رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم أخذهم الرعب، فلم جيرتئوا على التقدم واللقاء، بل تفرقوا يف البالد‬ ‫يف داخل حدودهم، فكان لذلك أحسن أثر بالنسبة إىل مسعة املسلمني العسكرية، يف داخل اجلزيرة وأرجائها النائية، وحصل بذلك املسلمون على مكاسب‬ ‫سياسية كبرية خطرية، لعلهم مل يكونوا حيصلون عليها لو وقع هناك اصطدام بني اجليشني.‬ ‫جاء حيَنَّةُ بن رؤبَةَ صاحب أيْـلَةَ، فصاحل الرسول صلى اهلل عليه وسلم وأعطاه اجلزية، وأتاه أهل ج ْربَاء وأهل أذ ُح، فأعطوه اجلزية، كتب هلم رسول اللّه‬ ‫و‬ ‫ْر‬ ‫َ‬ ‫ُْ‬ ‫ُ‬ ‫مينَاء على ربع مثارها، كتب لصاحب أيلة: (بسم اللّه الرمحن الرحيم، هذه أمنة من اللّه وحممد النيب‬ ‫و‬ ‫صلى اهلل عليه وسلم كتاباً فهو عندهم، وصاحله أهل ِ‬ ‫رسول اللّه ليحنة بن رؤبة وأهل أيلة، سفنهم وسياراهتم يف الرب والبحر هلم ذمة اللّه وذمة حممد النيب، ومن كان معه من أهل الشام وأهل البحر، فمن‬ ‫أحدث منهم حدثاً، فإنه ال حيول ماله دون نفسه، وإنه طيب ملن أخذه من الناس، وأنه ال حيل أن ْينعوا ماء يردونه، وال طريقاً يريدونه من بر أو حبر).‬
  • 67. ‫ِ‬ ‫َ َُِ َ‬ ‫وبعث رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم خالد بن الوليد إىل أُكْيدر دومة اجلَْندل يف أربعمائة وعشرين فارساً، وقال له: (إنك ستجده‬ ‫‪‬‬ ‫يصيد البقر) ، فأتاه خالد، فلما كان من حصنه مبنظر العني، خرجت بقرة، حتك بقروهنا باب القصر، ج أكيدر لصيدها ـ كانت‬ ‫و‬ ‫فخر‬ ‫ليلة مقمرة ـ فتلقاه خالد يف خيله، فأخذه وجاء به إىل رسول اللّهصلى اهلل عليه وسلم، فحقن دمه، وصاحله على ألفي بعري،‬ ‫ومثامنائة رأس وأربعمائة ع، وأربعمائة رمح، وأقر بإعطاء اجلزية، فقاضاه مع حيَنَّة على قضية دومة وتبوك وأيْـلَةَ وتَـْيماء.‬ ‫َ‬ ‫َُ‬ ‫ُ‬ ‫در‬ ‫وأيقنت القبائل اليت كانت تعمل حلساب الرومان أن اعتمادها على سادهتا األقدمني قد فات أوانه، فانقلبت لصاحل املسلمني،‬ ‫وهكذا توسعت حدود الدولة اإلسالمية، حىت القت حدود الرومان مباشرة، وشهد عمالء الرومان هنايتهم إىل حد كبري.‬ ‫الرجوع إىل املدينة‬ ‫ورجع اجليش اإلسالمي من تبوك مظفرين منصورين، مل ينالوا كيداً، كفي اهلل املؤمنني القتال، ويف الطريق عند عقبة حاول اثنا عشر‬ ‫و‬ ‫رجالً من املنافقني الفتك بالنيب صلى اهلل عليه وسلم، وذلك أنه حينما كان ْير بتلك العقبة كان معه عمار يقود بزمام ناقته،‬ ‫وحذيفة ابن اليمان يسوقها، وأخذ الناس ببطن الوادي، فانتهز أولئك املنافقون هذه الفرصة. فبينما رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم‬ ‫وصاحباه يسريان إذ مسعوا كزة القوم من ورائهم، قد غشوه وهم ملتثمون، فبعث حذيفة فضرب وجوه رواحلهم مبِحجن كان معه ،‬ ‫َْ‬ ‫و‬ ‫فأرعبهم اللّه، فأسرعوا يف الفرار حىت حلقوا بالقوم، وأخرب رسول اللّه صلى اهلل عليه وسلم بأمسائهم، ومبا مهوا به، فلذلك كان حذيفة‬ ‫يسمي بصاحب سـر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم، ويف ذلك يقول اللّه تعايل: {ومهُّواْ ِمبَا ملْ يَـنَالُوا} [التوبة:47].‬ ‫َ‬ ‫ََ‬ ‫وملا الحت للنيب صلى اهلل عليه وسلم معامل املدينة من بعيد قال: (هذه طَابَةُ، وهذا أحد، جبل حيبنا وحنبه)، وتسامع الناس مبقدمه،‬ ‫ٌُ‬ ‫ج النساء والصبيان والوالئد يقابلن اجليش حبفاوة بالغة ويقلن:‬ ‫فخر‬ ‫طلع البـدر علينا ** من ثنيات الوداع‬ ‫وجب الشكر علينا ** ما دعا للع داع‬ ‫كانت عودته صلى اهلل عليه وسلم من تبوك ودخوله يف املدينة يف رجب سنة 9هـ ، واستغرقت هذه الغزوة مخسني يوماً، أقام منها‬ ‫و‬ ‫عشرين يوماً يف تبوك، والبواقي قضاها يف الطريق جيئة وذهوبًا. كانت هذه الغزوة آخر غزواته صلى اهلل عليه وسلم.‬ ‫و‬
  • 68. ‫بـدايـة املـرض‬ ‫‪‬‬ ‫ويف اليوم الثامن أو التاسع والعشرين من شهر صفر سنة11 هـ ـ كان يوم االثنني ـ شهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم جنازة يف البقيع، فلما رجع،‬ ‫و‬ ‫وهو يف الطريق أخذه صداع يف رأسه، واتقدت احلرارة، حىت إهنم كانوا جيدون سورهتا فوق العِصابة اليت تعصب هبا رأسه.‬ ‫َ‬ ‫َ ََْ‬ ‫وقد صلي النيب صلى اهلل عليه وسلم بالناس وهو مريض 11 يوماً، ومجيع أيام املرض كانت 13، أو 14 يوماً.‬ ‫األسبوع األخري‬ ‫وثقل برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم املرض، فجعل يسأل أزواجه: (أين أنا غداً؟ أين أنا غداً؟) ففهمن مراده، فأذن له يكون حيث شاء، فانتقل‬ ‫إىل بيت عائشة ْيشي بني الفضل بن عباس وعلى بن أيب طالب، عاصباً رأسه، ختط قدماه حىت دخل بيتها، فقضي عندها آخر أسبوع من حياته.‬ ‫كانت عائشة تقرأ باملعوذات واألدعية اليت حفظتها من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم، فكانت تنفث على نفسه، ومتسحه بيده رجاء كة.‬ ‫الرب‬ ‫و‬ ‫قبل الوفاة خبمسة أيام‬ ‫ويوم األربعاء قبل مخسة أيام من الوفاة، اتقدت حرارة العلة يف بدنه، فاشتد به الوجع وغمي، فقال: (هريقوا علي سبع قِرب من آبار شيت، حىت‬ ‫َ‬ ‫ِ ٍَ‬ ‫ج إىل الناس، فأعهد إليهم)، فأقعدوه يف خمَضب ، وصبوا عليه املاء حىت طفق يقول: (حسبكم، حسبكم).‬ ‫أخر‬ ‫وعند ذلك أحس خبفة، فدخل املسجد متعطفاً ملحفة على منكبيه، قد عصب رأسه بعصابة دمسة حىت جلس على املنرب، كان آخر جملس جلسه،‬ ‫و‬ ‫فحمد اهلل وأثين عليه، مث قال: (أيها الناس، إيل)، فثابوا إليه، فقال ـ فيما قال: (لعنة اهلل على اليهود والنصارى، اختذوا قبور أنبيائهم مساجد) ـ ويف‬ ‫رواية: (قاتل اهلل اليهود والنصارى، اختذوا قبور أنبيائهم مساجد) ـ وقال: (ال تتخذوا قربي وثناً يعبد).‬
  • 69. ‫وعرض نفسه للقصاص قائالً: (من كنت جلدت له ظَهرا فهذا ظهري فليستقد منه، ومن كنت شتمت له عِرضاً فهذا عرضي فليستقد منه).‬ ‫ْ‬ ‫ًْ‬ ‫‪‬‬ ‫مث نزل فصلى الظهر، مث رجع فجلس على املنرب، وعاد ملقالته األويل يف الشحناء وغريها. فقال رجل: إن يل عندك ثالثة دراهم، فقال: (أعطه يا فضل)، مث أوصي باألنصار قائالً:‬ ‫ِ ُّ‬ ‫حم ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫(أوصيكم باألنصار، فإهنم كرشي وعَْيبَيت، وقد قضوا الذي عليهم وبقي الذي هلم، فاقبلوا من ُْسنهم، وجتاوزوا عن مسيئهم)، ويف رواية أنه قال: (إن الناس يكثرون، وتَقل األنصار حىت‬ ‫ْ‬ ‫يكونوا كامللح يف الطعام، فمن ويل منكم أمراً يضر فيه أحداً أو ينفعه فليقبل من حمسنهم، ويتجاوز عن مسيئهم).‬ ‫مث قال: (إن عبداً خريه اهلل بني أن يؤتيه من زهرة الدنيا ما شاء، وبني ما عنده، فاختار ما عنده). قال أبو سعيد اخلدري: فبكي أبو بكر. قال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا، فعجبنا له، فقال‬ ‫الناس: انظروا إىل هذا الشيخ، خيرب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عن عبد خريه اهلل بني أن يؤتيه من زهرة الدنيا، وبني ما عنده، وهو يقول: فديناك بآبائنا وأمهاتنا. فكان رسول اهلل‬ ‫صلى اهلل عليه وسلم هو املخري، كان أبو بكر أعلمنا.‬ ‫و‬ ‫مث قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم: (إن من أمن الناس على يف صحبته وماله أبو بكر، ولو كنت متخذاً خليالً غري ريب ال ختذت أبا بكر خليالً، ولكن أخوة اإلسالم ومودته، ال‬ ‫ّ‬ ‫يبقني يف املسجد باب إال سد، إال باب أيب بكر).‬ ‫قبل أربعة أيام‬ ‫ويوم اخلميس قبل الوفاة بأربعة أيام قال ـ وقد اشتد به الوجع: (هلموا أكتب لكم كتاباً لن تضلوا بعده) ـ ويف البيت رجال فيهم عمر ـ فقال عمر: قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن،‬ ‫حسبكم كتاب اهلل، فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغط واالختالف‬ ‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم: (قوموا عين).‬ ‫وأوصى ذلك اليوم بثالث: أوصي بإخراج اليهود والنصاري و كني من جزيرة العرب، وأوصي بإجازة الوفود بنحو ما كان جييزهم، أما الثالث فنسيه الراوي. ولعله الوصية باالعتصام‬ ‫املشر‬ ‫بالكتاب والسنة، أو تنفيذ جيش أسامة، أو هي: (الصالة وما ملكت أْيانكم).‬ ‫والنيب صلى اهلل عليه وسلم مع ما كان به من شدة املرض كان يصلي بالناس مجيع صلواته حىت ذلك اليوم ـ يوم اخلميس قبل الوفاة بأربعة أيام ـ وقد صلي بالناس ذلك اليوم صالة‬ ‫املغرب، فقرأ فيها باملرسالت عرفاً.‬ ‫َ ى الناس؟) قلنا: ال يا رسول اهلل، وهم ينتظرونك. قال: (ضعوا‬ ‫وعند العشاء زاد ثقل املرض، حبيث مل يستطع اخلروج إىل املسجد. قالت عائشة: فقال النيب صلى اهلل عليه وسلم: (أصلَّ‬ ‫يل ماء يف املِخضب)، ففعلنا، فاغتسل، فذهب لينوء فأغمي عليه. مث أفاق، فقال: (أصلى الناس؟) ـ ووقع ثانياً وثالثاً ما وقع يف املرة األويل من االغتسال مث اإلغماء حينما أراد أن ينوء ـ‬ ‫ْ َ‬ ‫فأرسل إىل أيب بكر أن يصلي بالناس، فصلي أبو بكر تلك األيام 71 صالة يف حياته صلى اهلل عليه وسلم، وهي صالة العشاء من يوم اخلميس، وصالة الفجر من يوم اإلثنني، ومخس‬ ‫عشرة صالة فيما بينها.‬ ‫وراجعت عائشة النيب صلى اهلل عليه وسلم ثالث أو أربع مرات ؛ ليصرف اإلمامة عن أيب بكر حىت ال يتشاءم به الناس ، فأيب وقال: (إنكن ألننت صواحب يوسف، مروا أبا بكر فليصل‬ ‫بالناس).‬
  • 70. ‫قبل ثالثة أيام‬ ‫‪‬‬ ‫قال جابر: مسعت النيب صلى اهلل عليه وسلم قبل موته بثالث وهو يقول: (أال ال ْيوت أحد منكم إال وهو حيسن الظـن باهلل).‬ ‫قبل يوم أو يومني‬ ‫ويوم السبت أو األحد وجد النيب صلى اهلل عليه وسلم يف نفسه خفة، ج بني رجلني لصالة الظهر، وأبو بكر يصلي بالناس، فلما رآه أبو بكر ذهب ليتأخر، فأومأ إليه بأال يتأخر،‬ ‫فخر‬ ‫قال: (أجلساين إىل جنبه)، فأجلساه إىل يسار أيب بكر، فكان أبو بكر يقتدي بصالة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ويسمع الناس التكبري.‬ ‫قبل يوم‬ ‫وقبل يوم من الوفاة ـ يوم األحد ـ أعتق النيب صلى اهلل عليه وسلم غلمانه، وتصدق بستة أو سبعة دنانري كانت عنده ، ووهب للمسلمني أسلحته، ويف الليل أرسلت عائشة مبصباحها امرأة‬ ‫من النساء وقالت: أقطري لنا يف مصباحنا من عُكتِك السمن ، كانت درعه صلى اهلل عليه وسلم مرهونة عند يهودي بثالثني صاعاً من الشعري.‬ ‫و‬ ‫َّ‬ ‫آخر يوم من احلياة‬ ‫روي أنس بن مالك: أن املسلمني بينا هم يف صالة الفجـر من يوم االثنني ـ وأبو بكر يصلي هبم ـ مل يفجأهم إال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كشف سرت حجرة عائشة فنظر إليهم، وهم‬ ‫يف صفوف الصالة، مث تبسم يضحك، فنكص أبو بكر على عقبيه ؛ ليصل الصف، وظن أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يريد أن ج إىل الصالة. فقال أنس: وهم املسلمون أن‬ ‫َ َّ‬ ‫خير‬ ‫يفتتنوا يف صالهتم، فَـرحا برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم، فأشار إليهم بيده رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن أمتوا صالتكم، مث دخل احلجرة وأرخي السرت.‬ ‫ًَ‬ ‫مث مل يأت على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وقت صالة أخرى.‬ ‫وملا ارتفع الضحى، دعا النيب صلى اهلل عليه وسلم فاطمة فسارها بشيء فبكت، مث دعاها، فسارها بشيء فضحكت، قالت عائشة: فسألنا عن ذلك ـ أي فيما بعد ـ فقالت: سارين النيب‬ ‫َ َّ‬ ‫صلى اهلل عليه وسلم أنه يقبض يف وجعه الذي تويف فيه، فبكيت، مث سارين فأخربين أين أول أهله يتبعه فضحكت.‬ ‫وبشر النيب صلى اهلل عليه وسلم فاطمة بأهنا سيدة نساء العاملني.‬ ‫ورأت فاطمة ما برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من الكرب الشديد الذي يتغشاه.‬ ‫فقالت: وا كرب أباه. فقال هلا: (ليس على أبيك كرب بعد اليوم).‬ ‫ودعا احلسن واحلسني فقبلهما، وأوصي هبما خرياً، ودعا أزواجه فوعظهن وذكرهن.‬ ‫َِ‬ ‫وطفق الوجع يشتد ويزيد، وقد ظهر أثر السم الذي أكله خبيرب حىت كان يقول: (يا عائشة، ما أزال أجد أمل الطعام الذي أكلت خبيرب، فهذا أوان وجدت انقطاع أبْـهري من ذلك السم).‬ ‫وقد ح مخيصة له على وجهه، فإذا اغتم هبا كشفها عن وجهه، فقال وهو كذلك ـ كان هذا آخر ما تكلم وأوصي به الناس: (لعنة اهلل على اليهود والنصارى، اختذوا قبور أنبيائهم‬ ‫و‬ ‫ِ‬ ‫طر َ َ‬ ‫مساجد ـ حيذر ما صنعوا ـ ال يبقني دينان بأرض العرب).‬ ‫وأوصى الناس فقال: (الصالة، الصالة، وما ملكت أْيانكم)، كــرر ذلك م ـراراً.‬
  • 71. ‫االحتضار‬ ‫‪‬‬ ‫وبدأ االختصار فأسندته عائشة إليها، كانت تقول: إن من نعم اهلل على أن رسول اهلل صلى اهلل‬ ‫و‬ ‫َ ْ ِ َْ ِ‬ ‫عليه وسلم تويف يف بييت ويف يومي وبني سحري وحنري، وأن اهلل مجع بني ريقي وريقه عند موته.‬ ‫دخل عبد الرمحن ـ بن أيب بكر ـ وبيده السواك، وأنا مسندة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم، فرأيته‬ ‫ينظر إليه، وعرفت أنه حيب السواك، فقلت: آخذه لك؟ فأشار برأسه أن نعم. فتناولته فاشتد‬ ‫عليه، وقلت: ألينه لك؟ فأشار برأسه أن نعم. فلينته، فأمره ـ ويف رواية أنه اسنت به كأحسن ما كان‬ ‫مستنا ـ وبني يديه كوة فيها ماء، فجعل يدخل يديه يف املاء فيمسح به وجهه، يقول: (ال إله إال‬ ‫رْ َ‬ ‫َ‬ ‫اهلل، إن للموت سكرات...) احلديث.‬ ‫وما عدا أن غ من السواك حىت رفع يده أو أصبعه، وشخص بصره حنو السقف، كت شفتاه،‬ ‫وحتر‬ ‫فر‬ ‫فأصغت إليه عائشة وهو يقول: (مع الذين أنعمت عليهم من النبيني والصديقني والشهداء‬ ‫والصاحلني، اللهم اغفر يل وارمحين، وأحلقين بالرفيق األعلي. اللهم، الرفيق األعلي).‬ ‫كرر الكلمة األخرية ثالثاً، ومالت يده وحلق بالرفيق األعلي. إنا هلل وإنا إليه راجعون.‬ ‫وقع هذا احلادث حني اشتدت الضحي من يوم االثنني 21 ربيع األول سنة 11هـ، وقد مت له‬ ‫صلى اهلل عليه وسلم ثالث وستون سنة .‬