SlideShare a Scribd company logo
إعداد جنات عبد العزيز دنيا السعادة فى معاملة الخلق   ‏ أن تعاملهم لله من فتاوى  شيخ الإسلام ابن تيمية
السعادة فى معاملة الخلق‏  هى  :‏ أن تعاملهم لله  ؛  فترجو الله فيهم ولا ترجوهم فى الله .  وتخافه فيهم ولا تخافهم فى الله .  وتحسن إليهم رجاء ثواب الله لا لمكافأتهم . وتكف عن ظلمهم خوفًا من الله لا منهم، كما جاء فى الأثر‏ :‏  ‏ ( (  ‏ ارج الله فى الناس ولا ترج الناس فى الله، وخف الله فى الناس ولا  تخف الناس فى الله‏ ) ) ‏   أى‏ :  لا تفعل شيئًا من أنواع العبادات والقرب  لأجلهم، لا رجاء مدحهم ولا خوفًا من ذمهم، بل ارج الله ولا تخفهم  فى   الله فيما تأتى وما تذر، بل افعل ما أمرت به وإن كرهوه‏ .‏
وفى الحديث‏ :‏  ( (‏ إن من ضعف اليقين أن ترضى الناس بسخط الله، أو  تَذُمَّهُمْ على ما لم يؤتك الله‏ ) ) ‏   ؛  فإن اليقين يتضمن اليقين فى القيام  بأمر الله وما وعد الله أهل طاعته، ويتضمن اليقين بقدر الله وخلقه  وتدبيره،فإذا أرضيتهم بسخط الله لم تكن موقنا، لا بوعده ولا برزقه   . فإنه إنما يحمل الإنسان على ذلك، إما ميل إلى ما فى أيديهم من  الدنيا، فيترك القيام فيهم بأمر الله؛ لما يرجوه منهم‏ .‏  وإما ضعف  تصديق بما وعد الله أهل طاعته من النصر والتأييد والثواب فى الدنيا  والآخرة   .  فإنك إذا أرضيت الله نصرك، ورزقك وكفاك مؤنتهم   . فإرضاؤهم بسخطه إنما يكون خوفا منهم ورجاء لهم   ؛   وذلك من  ضعف اليقين‏ .‏
وإذا لم يقدر لك ما تظن أنهم يفعلونه معك، فالأمر فى ذلك إلى الله لا  لهم، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن   . فلا تخفهم ولا   ترجهم ولا تذمهم من جهة نفسك وهواك، لكن م َ ن  ح َ م َ ده الله ورسوله فهو المحمود، وم َ ن ذمَّه الله ورسوله فهوالمذموم‏ .‏   ولما قال بعض وفد بنى تَمِيم‏ :‏  يا محمد، أعطنى، فإن حَمْدِى زَيْنُ وإن  ذَمِّى شَيْنٌ‏  ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏ :‏ ‏ ( ( ‏ ذاك الله عز وجل‏ )‏ )   . وكتبت عائشة إلى معاوية، وروى أنها رفعته إلى النبى صلى الله عليه   وسلم‏ :‏  ‏( ( ‏ من   أرضى الله بسخط الناس كفاه مؤنة الناس، ومن  أرضى الناس بسخط الله لم يُغْنُوا عنه من الله شيئا‏ ) )‏   هذا لفظ المرفوع .
ولفظ الموقوف‏ :‏  ‏(‏ ( من أرضى الله بسخط الناس   رضى الله عنه  وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من  الناس له ذاماً‏ )‏ )   هذا لفظ المأثور عنها، وهذا من أعظم الفقه فى  الدين،والمرفوع أحق وأصدق، فإن من أرضى الله بسخطهم كان قد  اتقاه، وكان عبده الصالح، والله يتولى الصالحين، وهو كاف عبده ‏ . ويقول تعالى  { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا  يَحْتَسِبُ  } ‏ [‏ الطلاق‏ :‏ 2 ،  3‏]‏‏.‏  فالله يكفيه مُؤْنَةَ الناس بلا رَيْب . وأما كون الناس كلهم يرضون عنه ، فقد لا يحصل ذلك .   لكن يرضون عنه، إذا سلموا من الأغراض وإذا تبين لهم العاقبة .
ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئاً، كالظالم  الذى يعض على يده يقول‏ :‏ ‏ { يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا  يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا }‏  ‏[ الفرقان‏ :‏ 27 ،  28‏]‏ .   وأما كون حامده ينقلب ذاماً،  فهذا يقع كثيراً، ويحصل فى العاقبة، فإن  العاقبة للتقوى، لا يحصل ابتداء عند أهوائهم، وهو سبحانه أعلم‏ .‏ على العبد أن يخاف الله وحده ولا يخاف أحدًا، فإن من لا يخاف الله أذل   من أن يخاف، فإنه ظالم وهو من أولياء الشيطان، فالخوف منه  قد نهى الله عنه،  وإذا قيل‏ :‏   قد يؤذينى،  قيل‏ :‏  إنما يؤذيك بتسليط الله  له، وإذا أراد الله دفع شره عنك دفع ه ، فالأمر لله .
وإنما يسلط على العبد بذنوبه، وأنت إذا خفت الله فاتقيته وتوكلت  عليه كفاك شر كل شر، ولم يسلطه عليك، فإنه قال‏ :‏ ‏ { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } ‏ ‏[‏ الطلاق‏ :‏3‏]‏ . وتسليطه يكون بسبب ذنوبك وخوفك منه، فإذا خفت الله وتبت من ذنوبك واستغفرته  لم يسلط عليك، كما قال‏ :‏  ‏{ وَمَا كَانَ اللّهُ   مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }‏  [‏ الأنفال‏ :‏33‏]‏‏.‏   فالتوحيد ضد الشرك، فإذا قام العبد بالتوحيد الذى هو حق الله، فعب َ ده  لا يشرك به شيئاً كان موحداً‏ .‏
ومن توحيد الله وعبادته‏ :‏   التوكل عليه والرجاء له، والخوف منه . فهذا يخلص به العبد من الشرك‏ .‏  وإعطاء الناس حقوقهم، وترك  العدوان عليهم، يخلص به العبد من ظلمهم، ومن الشرك بهم‏ .‏ فإن خوف الله يحمله على أن يعطيهم حقهم ويكف عن ظلمهم، ومن  خافهم ولم يخف الله فهذا ظالم لنفسه ولهم، حيث خاف غير الله  ورجاه؛   لأنه إذا خافهم دون الله احتاج أن يدفع شرهم عنه بكل وجه،  إما بمداهنتهم ومراءاتهم، وإما بمقابلتهم بشىء أعظم من شرهم أو  مثله، وإذا رجاهم لم يقم فيهم بحق الله .
وكذلك إذا رجاهم فهم لا يعطونه ما يرجوه منهم، فلابد أن يبغضهم  فيظلمهم إذا لم يكن خائفا من الله عز وجل، وهذا موجود كثيرًا فى  الناس، تجدهم يخاف بعضهم بعضًا ويرجو بعضهم بعضًا، وكل من  هؤلاء يتظلم من الآخر، ويطلب ظلمه، فهم ظالمون بعضهم لبعض،  ظالمون فى حق الله حيث خافوا غيره ورجوا غيره، ظالمون  لأنفسهم،   فإن هذا من الذنوب التى تعذب النفس بها وعليها، وهو يجر إلى فعل المعاصى المختصة، كالشرك والزنا، فإن الإنسان إذا لم يخف من الله اتبع هواه، ولاسيما إذا كان طالبًا ما لم يحصل له؛ فإن نفسه تبقى طالبة   لما تستريح به وتدفع به الغم والحزن عنها، وليس  عندها من ذكر الله وعبادته ما تستريح إليه وبه، فيستريح إلى  المحرمات من فعل الفواحش وشرب المحرمات وقول الزور، وذكر  مجريات النفس والهزل   واللعب، ومخالطة قرناء السوء وغير ذلك .
ولا يستغنى القلب إلا بعبادة الله ـ تعالى‏ .‏   والعبد مفتقر دائما إلى التوكل على الله والاستعانة به، كما هو   مفتقر إلى عبادته، فلابد أن  يشهد دائمًا فقره إلى الله، وحاجته فى أن يكون معبودًا   له، وأن يكون معينًا له، فلا حول ولا قوة إلا بالله، ولا ملجأ من الله إلا إليه،   قال  تعالى‏ :{ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ   أَوْلِيَاءهُ   } ‏  [‏ آل عمران‏ :‏ 175‏]‏  أى  يخوفكم بأوليائه‏ .‏  هذا هو   الصواب الذى عليه الجمهور، كابن عباس وغيره   أن الشيطان يجعل أولياءه مخوفين،ويجعل ناسا خائفين منهم‏ .‏   ودلت الآية على أن المؤمن لا يجوز له أن يخاف أولياء الشيطان،  ولا يخاف الناس، كما قال‏ :‏ ‏ { فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ }‏  ‏ [ المائدة‏ :‏ 44‏]‏ ، فخوف الله أمر به، وخوف أولياء الشيطان نَهَى عنه .
قال تعالى‏ :  { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ  تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي } ‏ ‏[‏ البقرة‏ :‏150‏]‏ ، فنهى عن خَشْيَةِ الظالم وأمر  بخشيته، وقال‏ :‏ ‏ { الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ }‏  ‏[‏ الأحزاب‏ :‏ 39‏]‏ ، وقال‏ :‏  ‏{ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ }‏ ‏ [ النحل‏ :‏ 51‏]‏‏.‏   وبعض الناس يقول‏ :‏  يا رب، إنى أخافك وأخاف من لا يخافك،   فهذا  كلام   ساقط لا يجوز، بل على العبد أن يخاف الله وحده ولا يخاف أحدًا، وفى ال أ ثر‏‏ ‏‏يقول الله‏ :‏  ( (   أنا الله لا إله إلا أنا ملك الملوك، قلوب  الملوك ونواصيها بيدى، فمن أطاعنى جعلت قلوب الملوك عليه رحمة، ومن عصانى جعلتهم عليه نقمة، فلا تشغلوا أنفسكم بسبِّ  الملوك، ولكن توبوا إلىَّ وأطيعون أعطفهم عليكم‏ )‏‏ ) .‏
مجموع فتاوى ابن تيمية –  01 –  الجزء الأول  ( العقيدة )   http:// saaid.net/book/open.php?cat =86&book=800 [email_address]

More Related Content

PPT
أخطاء شائعة فى العقيدة
PPT
الامنون يوم القيامه
PPS
شهود يراقبونك
PPTX
Urgensi Ilmu dalam Islam
PDF
التوحيد و العبادة
PPS
علمتنى الحياة
DOC
PPT
Moraqaba
أخطاء شائعة فى العقيدة
الامنون يوم القيامه
شهود يراقبونك
Urgensi Ilmu dalam Islam
التوحيد و العبادة
علمتنى الحياة
Moraqaba

What's hot (20)

PPSX
ماهو الطاغوت
PPT
دعـــــــــــاء
PDF
13 joshua takes charge arabic
PDF
PPS
الرضا
PPS
خطوات في إصلاح الذات
PPS
حوار مع الغفلة
PPT
الدعوة إلى الله وأخلاق الدعاة
PPS
أجر الصدقة
DOC
الحكم الجليلة من إقامة حد الردة و الرد على المغرضين و الزائغين
PPS
Do3a Jabreel
DOCX
توحيد أولى ثانوي الفصل الدراسي الثاني
PPT
الأدب النبوي
PPT
هكذا علمنا حبيبنا صلى الله عليه وسلم
PPS
الصبر
PPS
علمتني الحياة3
PPS
الصبر
PPS
دعاء جبريل
PPS
علمتني الحياة6 Pps
ماهو الطاغوت
دعـــــــــــاء
13 joshua takes charge arabic
الرضا
خطوات في إصلاح الذات
حوار مع الغفلة
الدعوة إلى الله وأخلاق الدعاة
أجر الصدقة
الحكم الجليلة من إقامة حد الردة و الرد على المغرضين و الزائغين
Do3a Jabreel
توحيد أولى ثانوي الفصل الدراسي الثاني
الأدب النبوي
هكذا علمنا حبيبنا صلى الله عليه وسلم
الصبر
علمتني الحياة3
الصبر
دعاء جبريل
علمتني الحياة6 Pps
Ad

Viewers also liked (12)

PPS
In solidarity with Gaza
PPS
Dear son dear daughter
PPS
Jannah 7
PPS
Jannah
PPS
أهل الفجر Al Fajr Prayer
PPT
وصف الجَـنَّة
PPTX
Twilight - Nuhu Alba - Cacace Giulia - Scaringi Timea
DOCX
Breaking Dawn
PPT
My Dilemma is you -Alice Barnabà
PPS
ماشطةابنةفرعون
PPS
إعجاز الرقم سبعة: 1
PDF
افات اللسان
In solidarity with Gaza
Dear son dear daughter
Jannah 7
Jannah
أهل الفجر Al Fajr Prayer
وصف الجَـنَّة
Twilight - Nuhu Alba - Cacace Giulia - Scaringi Timea
Breaking Dawn
My Dilemma is you -Alice Barnabà
ماشطةابنةفرعون
إعجاز الرقم سبعة: 1
افات اللسان
Ad

Similar to المعاملة (20)

DOC
الدروس المستفادة من قوله تعالى لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرّ...
PPTX
PPT
إصلاح القلوب
PPS
السنن الإلهية فى النصر والتمكين
PPSX
ماهو الطاغوت
DOCX
الكبر
PPT
كن رحيما
PPT
كن رحيما
DOCX
الشاي المغربي العادات والتقاليد
PPT
مشروع 100 يوم إلى رمضان ـ الجزء 1
PPT
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ
PPS
علمتني الحياة5
PPS
This Is Islam
PPS
أثر المعاصى لابن القيم
PPS
وصاي القران و الرسول
PPT
وصايا القرآن ووصايا الرسول صلى الله عليه وسلم
PPT
حتى تكون أسعد الناس للدكتور عائض القرنى
DOCX
وزارة التربيه والتعليم
PDF
تأويل القرآن العظيم- المجلد الثاني
PPTX
ن4صف12 فصل1
الدروس المستفادة من قوله تعالى لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرّ...
إصلاح القلوب
السنن الإلهية فى النصر والتمكين
ماهو الطاغوت
الكبر
كن رحيما
كن رحيما
الشاي المغربي العادات والتقاليد
مشروع 100 يوم إلى رمضان ـ الجزء 1
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ
علمتني الحياة5
This Is Islam
أثر المعاصى لابن القيم
وصاي القران و الرسول
وصايا القرآن ووصايا الرسول صلى الله عليه وسلم
حتى تكون أسعد الناس للدكتور عائض القرنى
وزارة التربيه والتعليم
تأويل القرآن العظيم- المجلد الثاني
ن4صف12 فصل1

More from غايتي الجنة (20)

PPT
يوميات مسلم
PPT
وصايا للمسافر
PPT
وصايا القرآن ووصايا الرسول صلى الله عليه وسلم
PPT
وصايا الإسلام للأبناء
PPT
هل تريد حل لحر الصيف
PPT
هل تريد أن تكون قريبا من الله
PPT
هل انت راض عن رمضان الماضي
PPT
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الأكل
PPT
هدايا رمضان
PPT
نوايا تلاوة القرآن
PPT
نبي الله داود
PPT
منهج الاسلام في الحفاظ على البيئة
PPT
منطلقات الناجحين
PPT
من كتاب صحيح الجامع للشيخ الالباني
PPT
من عجائب القرآن الكريم
PPT
من عجائب القرآن الكريم
PPT
من أقوال النبى صلى الــلــه عليه و ســــلـــــــم
PPT
من اقوال الرسول
PPT
من أساليب الرسول في التربية
PPT
من أخلاق النبي صلى الله عليه و سلم
يوميات مسلم
وصايا للمسافر
وصايا القرآن ووصايا الرسول صلى الله عليه وسلم
وصايا الإسلام للأبناء
هل تريد حل لحر الصيف
هل تريد أن تكون قريبا من الله
هل انت راض عن رمضان الماضي
هدي النبي صلى الله عليه وسلم في الأكل
هدايا رمضان
نوايا تلاوة القرآن
نبي الله داود
منهج الاسلام في الحفاظ على البيئة
منطلقات الناجحين
من كتاب صحيح الجامع للشيخ الالباني
من عجائب القرآن الكريم
من عجائب القرآن الكريم
من أقوال النبى صلى الــلــه عليه و ســــلـــــــم
من اقوال الرسول
من أساليب الرسول في التربية
من أخلاق النبي صلى الله عليه و سلم

المعاملة

  • 1. إعداد جنات عبد العزيز دنيا السعادة فى معاملة الخلق ‏ أن تعاملهم لله من فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية
  • 2. السعادة فى معاملة الخلق‏ هى :‏ أن تعاملهم لله ؛ فترجو الله فيهم ولا ترجوهم فى الله . وتخافه فيهم ولا تخافهم فى الله . وتحسن إليهم رجاء ثواب الله لا لمكافأتهم . وتكف عن ظلمهم خوفًا من الله لا منهم، كما جاء فى الأثر‏ :‏ ‏ ( ( ‏ ارج الله فى الناس ولا ترج الناس فى الله، وخف الله فى الناس ولا تخف الناس فى الله‏ ) ) ‏ أى‏ : لا تفعل شيئًا من أنواع العبادات والقرب لأجلهم، لا رجاء مدحهم ولا خوفًا من ذمهم، بل ارج الله ولا تخفهم فى الله فيما تأتى وما تذر، بل افعل ما أمرت به وإن كرهوه‏ .‏
  • 3. وفى الحديث‏ :‏ ( (‏ إن من ضعف اليقين أن ترضى الناس بسخط الله، أو تَذُمَّهُمْ على ما لم يؤتك الله‏ ) ) ‏ ؛ فإن اليقين يتضمن اليقين فى القيام بأمر الله وما وعد الله أهل طاعته، ويتضمن اليقين بقدر الله وخلقه وتدبيره،فإذا أرضيتهم بسخط الله لم تكن موقنا، لا بوعده ولا برزقه . فإنه إنما يحمل الإنسان على ذلك، إما ميل إلى ما فى أيديهم من الدنيا، فيترك القيام فيهم بأمر الله؛ لما يرجوه منهم‏ .‏ وإما ضعف تصديق بما وعد الله أهل طاعته من النصر والتأييد والثواب فى الدنيا والآخرة . فإنك إذا أرضيت الله نصرك، ورزقك وكفاك مؤنتهم . فإرضاؤهم بسخطه إنما يكون خوفا منهم ورجاء لهم ؛ وذلك من ضعف اليقين‏ .‏
  • 4. وإذا لم يقدر لك ما تظن أنهم يفعلونه معك، فالأمر فى ذلك إلى الله لا لهم، فإنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن . فلا تخفهم ولا ترجهم ولا تذمهم من جهة نفسك وهواك، لكن م َ ن ح َ م َ ده الله ورسوله فهو المحمود، وم َ ن ذمَّه الله ورسوله فهوالمذموم‏ .‏ ولما قال بعض وفد بنى تَمِيم‏ :‏ يا محمد، أعطنى، فإن حَمْدِى زَيْنُ وإن ذَمِّى شَيْنٌ‏ ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏ :‏ ‏ ( ( ‏ ذاك الله عز وجل‏ )‏ ) . وكتبت عائشة إلى معاوية، وروى أنها رفعته إلى النبى صلى الله عليه وسلم‏ :‏ ‏( ( ‏ من أرضى الله بسخط الناس كفاه مؤنة الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله لم يُغْنُوا عنه من الله شيئا‏ ) )‏ هذا لفظ المرفوع .
  • 5. ولفظ الموقوف‏ :‏ ‏(‏ ( من أرضى الله بسخط الناس رضى الله عنه وأرضى عنه الناس، ومن أرضى الناس بسخط الله عاد حامده من الناس له ذاماً‏ )‏ ) هذا لفظ المأثور عنها، وهذا من أعظم الفقه فى الدين،والمرفوع أحق وأصدق، فإن من أرضى الله بسخطهم كان قد اتقاه، وكان عبده الصالح، والله يتولى الصالحين، وهو كاف عبده ‏ . ويقول تعالى { وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ } ‏ [‏ الطلاق‏ :‏ 2 ، 3‏]‏‏.‏ فالله يكفيه مُؤْنَةَ الناس بلا رَيْب . وأما كون الناس كلهم يرضون عنه ، فقد لا يحصل ذلك . لكن يرضون عنه، إذا سلموا من الأغراض وإذا تبين لهم العاقبة .
  • 6. ومن أرضى الناس بسخط الله لم يغنوا عنه من الله شيئاً، كالظالم الذى يعض على يده يقول‏ :‏ ‏ { يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا }‏ ‏[ الفرقان‏ :‏ 27 ، 28‏]‏ . وأما كون حامده ينقلب ذاماً، فهذا يقع كثيراً، ويحصل فى العاقبة، فإن العاقبة للتقوى، لا يحصل ابتداء عند أهوائهم، وهو سبحانه أعلم‏ .‏ على العبد أن يخاف الله وحده ولا يخاف أحدًا، فإن من لا يخاف الله أذل من أن يخاف، فإنه ظالم وهو من أولياء الشيطان، فالخوف منه قد نهى الله عنه، وإذا قيل‏ :‏ قد يؤذينى، قيل‏ :‏ إنما يؤذيك بتسليط الله له، وإذا أراد الله دفع شره عنك دفع ه ، فالأمر لله .
  • 7. وإنما يسلط على العبد بذنوبه، وأنت إذا خفت الله فاتقيته وتوكلت عليه كفاك شر كل شر، ولم يسلطه عليك، فإنه قال‏ :‏ ‏ { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ } ‏ ‏[‏ الطلاق‏ :‏3‏]‏ . وتسليطه يكون بسبب ذنوبك وخوفك منه، فإذا خفت الله وتبت من ذنوبك واستغفرته لم يسلط عليك، كما قال‏ :‏ ‏{ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }‏ [‏ الأنفال‏ :‏33‏]‏‏.‏ فالتوحيد ضد الشرك، فإذا قام العبد بالتوحيد الذى هو حق الله، فعب َ ده لا يشرك به شيئاً كان موحداً‏ .‏
  • 8. ومن توحيد الله وعبادته‏ :‏ التوكل عليه والرجاء له، والخوف منه . فهذا يخلص به العبد من الشرك‏ .‏ وإعطاء الناس حقوقهم، وترك العدوان عليهم، يخلص به العبد من ظلمهم، ومن الشرك بهم‏ .‏ فإن خوف الله يحمله على أن يعطيهم حقهم ويكف عن ظلمهم، ومن خافهم ولم يخف الله فهذا ظالم لنفسه ولهم، حيث خاف غير الله ورجاه؛ لأنه إذا خافهم دون الله احتاج أن يدفع شرهم عنه بكل وجه، إما بمداهنتهم ومراءاتهم، وإما بمقابلتهم بشىء أعظم من شرهم أو مثله، وإذا رجاهم لم يقم فيهم بحق الله .
  • 9. وكذلك إذا رجاهم فهم لا يعطونه ما يرجوه منهم، فلابد أن يبغضهم فيظلمهم إذا لم يكن خائفا من الله عز وجل، وهذا موجود كثيرًا فى الناس، تجدهم يخاف بعضهم بعضًا ويرجو بعضهم بعضًا، وكل من هؤلاء يتظلم من الآخر، ويطلب ظلمه، فهم ظالمون بعضهم لبعض، ظالمون فى حق الله حيث خافوا غيره ورجوا غيره، ظالمون لأنفسهم، فإن هذا من الذنوب التى تعذب النفس بها وعليها، وهو يجر إلى فعل المعاصى المختصة، كالشرك والزنا، فإن الإنسان إذا لم يخف من الله اتبع هواه، ولاسيما إذا كان طالبًا ما لم يحصل له؛ فإن نفسه تبقى طالبة لما تستريح به وتدفع به الغم والحزن عنها، وليس عندها من ذكر الله وعبادته ما تستريح إليه وبه، فيستريح إلى المحرمات من فعل الفواحش وشرب المحرمات وقول الزور، وذكر مجريات النفس والهزل واللعب، ومخالطة قرناء السوء وغير ذلك .
  • 10. ولا يستغنى القلب إلا بعبادة الله ـ تعالى‏ .‏ والعبد مفتقر دائما إلى التوكل على الله والاستعانة به، كما هو مفتقر إلى عبادته، فلابد أن يشهد دائمًا فقره إلى الله، وحاجته فى أن يكون معبودًا له، وأن يكون معينًا له، فلا حول ولا قوة إلا بالله، ولا ملجأ من الله إلا إليه، قال تعالى‏ :{ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ } ‏ [‏ آل عمران‏ :‏ 175‏]‏ أى يخوفكم بأوليائه‏ .‏ هذا هو الصواب الذى عليه الجمهور، كابن عباس وغيره أن الشيطان يجعل أولياءه مخوفين،ويجعل ناسا خائفين منهم‏ .‏ ودلت الآية على أن المؤمن لا يجوز له أن يخاف أولياء الشيطان، ولا يخاف الناس، كما قال‏ :‏ ‏ { فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ }‏ ‏ [ المائدة‏ :‏ 44‏]‏ ، فخوف الله أمر به، وخوف أولياء الشيطان نَهَى عنه .
  • 11. قال تعالى‏ : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي } ‏ ‏[‏ البقرة‏ :‏150‏]‏ ، فنهى عن خَشْيَةِ الظالم وأمر بخشيته، وقال‏ :‏ ‏ { الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ }‏ ‏[‏ الأحزاب‏ :‏ 39‏]‏ ، وقال‏ :‏ ‏{ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ }‏ ‏ [ النحل‏ :‏ 51‏]‏‏.‏ وبعض الناس يقول‏ :‏ يا رب، إنى أخافك وأخاف من لا يخافك، فهذا كلام ساقط لا يجوز، بل على العبد أن يخاف الله وحده ولا يخاف أحدًا، وفى ال أ ثر‏‏ ‏‏يقول الله‏ :‏ ( ( أنا الله لا إله إلا أنا ملك الملوك، قلوب الملوك ونواصيها بيدى، فمن أطاعنى جعلت قلوب الملوك عليه رحمة، ومن عصانى جعلتهم عليه نقمة، فلا تشغلوا أنفسكم بسبِّ الملوك، ولكن توبوا إلىَّ وأطيعون أعطفهم عليكم‏ )‏‏ ) .‏
  • 12. مجموع فتاوى ابن تيمية – 01 – الجزء الأول ( العقيدة ) http:// saaid.net/book/open.php?cat =86&book=800 [email_address]